بيروس وملك غزة

1 أسكولوم، جنوب إيطاليا، 279 قبل الميلاد

بيروس Pyrrhus، ملك إيبيروس Epirus، يجلس على صخرة، واضعا رأسه بين يديه. من حوله آلاف الجثث: أحصوا سبعة آلاف قتيل من جيش الرومان وثلاثة آلاف من جيشه هو. ثلاثة آلاف، فكر فى أسى، هذا هو نصف جيشه. فى العام الماضى حدث نفس الشىء فى «هرقليا»: انتصر على الرومان ومحا جيشهم، لكنه فقد نصف جيشه وعتاده. جاءه قائد الجيش يهنئه بالنصر، فنظر له «بيروس» مطولا، وقال فى أسى: «نصر آخر كهذا، ونضيع بالكامل».

2

القاهرة- 2014

التقط أنفاسه وهو فى منتصف الكلمة التى يلقيها. شرب ماء موضوعا أمامه، ثم واصل خطابه: «لا للخنوع. لا لمساواة الجلاد بالضحية. لا لإهدار دماء الشهداء. لا لتبرير العدوان. لا للحصار. ونعم للمقاومة، نعم لمن يحملون أرواحهم على أيديهم، نعم لمن يموتون كى يرفعوا شرف هذه الأمة. نقول لهؤلاء الصامدين: تلك هى مصر الحقيقية، مصر الأمل، مصر الصمود، مصر التى لا تبيع ولا تقف موقف الحياد. نقول لهم: نناديكم، ونشد على أياديكم، ونبوس الأرض تحت نعالكم ونقول نفديكم».

أنهى خطابه وسط التصفيق، وجمع أوراقه، وخرج بسرعة من الباب الجانبى لقاعة النقابة. جلس فى سيارته يلتقط أنفاسه وهو لا يزال يشعر بغضب حقيقى لما يجرى فى غزة. جاءته رسالة نصية: نظر لشاشة الهاتف، فوجد رسالة من ابنته الصغيرة تذكره بالكنافة بالنوتيلا التى وعدها بها قبل خروجه.

3

غزة- 2009

جلس القيادى الشهير فى وسط الغرفة، وأجلسنى قبالته. من خلفه بدت أطلال مبنى الوزارة التى دمرها القصف الإسرائيلى. قطع ضخمة من الأسمنت راقدة فوق بعضها كيفما اتفق. تساءلت عن عدد الضحايا، فأشاح بيده، وترحم على أرواحهم. هنأته بنجاته، فقال إن الأعمار بيد الله، ولن يقصر الإسرائيليون فى عمره يوما عما كتب له، وإنه هو وقادة الحركة جميعا وعائلاتهم مستعدون للتضحية بأرواحهم من أجل نصرة شعبهم. ترحمنا على أرواح الشهداء، وذكرنا ابنه الشهيد، وقادة اغتالتهم إسرائيل. ثم صمتنا.

سألته عن العدوان الإسرائيلى الأخير وتصور الحركة للأيام القادمة، فقال إن هذه محاولات يائسة من العدو لكسر شوكة المقاومة، وإن المقاومة ستتواصل حتى تحرر كامل تراب فلسطين. قلت له: هذا يعنى رفض حل الدولتين، فرد هازئا بأن حل الدولتين خرافة. سألته إن كان حل الدولة الواحدة التى تشمل العرب واليهود عمليا، فابتسم، وقال بصراحة لا. نظرت له متسائلا، فقال: لا دولة واحدة ولا دولتان، ليس بيننا وبينهم سوى حرب مستمرة حتى يوم القيامة، إما نحن وإما هم، وقد وعدنا الله سبحانه وتعالى بالنصر المبين فى النهاية. سألته عن الثمن الذى يدفعه الأبرياء لهذا النصر المبين، خاصة فى مواجهة عدو لا يرحم ولا يميز بين مدنى وعسكرى أو بين جندى وطفل، فقال: نحتسبهم عند الله شهداء فى الجنة. سألته إن كان يعتقد أن الناس تريد قضاء حياتها فى صراع لا نهاية له من أجل نصر قد تكون تكلفته حياة أجيال كاملة، فنظر لى، مستنكرا السؤال، وقال إن الأمر لا يعود للناس ورغباتها، فهذه الأرض وقف إسلامى، والدفاع عنه واجب على كافة المسلمين، ولو أفنوا فيه حياتهم جميعا.

4

غزة- 2009

كان وجه السائق العجوز متغضنا، ويشبه تلك الوجوه التى يصورها السياح الغربيون ويضعونها فى المعارض. الطريق متهدم. اعتذر بأن القصف دمر الطريق الأصلى. سألنى إن كنت متأكدا من وجهتى، فمبنى الوزارة مغلق منذ قصفه الإسرائيليون. أكدت له أن لدى موعدا مع الوزير، فهز كتفيه، وواصل القيادة. أوقفنا جندى ملتح، عاملنا ببعض الخشونة وكثير من الشك. بعد فحص أوراقى أمر السائق بالتوقف على جانب الطريق. ظللنا طويلا فى الانتظار. سألته- لكسر الملل- عن رأيه فى حماس وفتح. فأشاح برأسه، وسب الحركتين معا، قائلا إن كلتيهما أسوأ من الأخرى، ولم ير الشعب منهما سوى الفشل والخراب. عدنا للصمت. بعد قليل أرانى صورة لأبنائه الذكور الثلاثة: «الأول فتحاوى والثانى حمساوى والثالث اعتقلته السلطة فى 2008». سألته عن حال الاثنين الآخرين، فترحم على روحيهما. وجمت. سألته إن كان له أبناء آخرون، فقال: ثلاث بنات، تزوجن، والحمد لله. لكن أزواجهن فقدوا أعمالهم بعد وقف تصاريح الدخول لإسرائيل. أضاف أنه فى السبعين، ويحمد الله أن لديه هذا التاكسى، فهو مصدر الدخل الباقى للأسرة كلها. استطرد أن المشكلة فى شح الوقود، والكثيرون يستخدمون زيت الطعام المغلى كوقود، لكنه يخشى أن يدمر المحرك، «فهذا المحرك هو كل ما تبقى لدىَّ من أمل».

ظللت واجما، ولم يخرجنا من الصمت الثقيل سوى عودة الجندى الذى أشار لى بالتقدم ناحية المبنى المتهدم للقاء القيادى الكبير.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ١٩ يولية ٢٠١٤