حز الرؤوس

مرت معظم المجتمعات الحديثة بحروب دموية فى محاولة لحسم صراعاتها الثقافية. الحروب الدينية فى أوروبا قبل الإصلاح الدينى وأثناءه وبعده، حرب الثلاثين عاماً الشهيرة، وحتى الحروب الأهلية فى الولايات المتحدة وفى إسبانيا، كلها حروب شكّل الصراع الثقافى بعداً أساسياً فيها، كانت لها- ولاشك- أبعاد أخرى، اقتصادية وطبقية وسياسية، لكن هكذا حال الصراع الثقافى: لا ينفصل أبداً عن بقية جوانب الصراع الاجتماعى. لكن ما يميز الصراعات الثقافية، مثلما أشرت من أسبوعين، أن أطرافه يختلفون حول المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية، مثل المساواة فى الحقوق أو حرية الفرد وحقه فى تحديد مصيره مقابل التمايز فى الحقوق وخضوع الفرد لسلطة خارجية، دينية كانت أو اجتماعية.

معظم المجتمعات الأوروبية لم تجد وسيلة لحسم هذه الخلافات سلمياً. حاولت النظم الملكية القائمة احتواءها، ومزجت بين استخدام البطش والتجاهل ولعب دور الحكم الفاصل بين الجهات المتعارضة. لكن الهوة الثقافية بين أطراف المجتمع ظلت تتسع، ومع تسارع عملية التحديث ازدادت الهوة اتساعاً وزاد شعور القوى البازغة بالقوة والثقة والرغبة فى إعادة صياغة المجتمع والنفور من القواعد التقليدية، كما زاد شعور القوى التقليدية بالتهديد الموجه لسيطرتها على المجتمع ثم لوجودها نفسه. ولما كانت هذه المبادئ الأساسية أساسية، وتمس قلوب الناس وهويتها ومعتقداتها الراسخة، فقد حدث ما يحدث عادة حين ينشب صراع حاد حولها وتفشل النظم القائمة فى إدارتها أو تسويتها سلمياً. خاضت الأطراف الأوروبية صراعاتها الثقافية بالحديد والنار والدم، وراكمت خلفها عدداً مذهلاً من الجثث وقصص المعاناة. ولو قرأت بعض كتابات «المُصلح الدينى» كالفن فى تشجيع قتل المختلفين معه دينياً، لوجدتها قريبة من منهج التنظيمات الإسلامية المقاتلة مثل «القاعدة وداعش».

وبعد عشرات من سنين القتل والدماء، انتصرت قوى التحديث على القوى التقليدية، لكنها لم تقضِ عليها. انتصرت ونجحت فى فرض إطار الدولة الحديثة القائمة على المواطنة والمساواة أمام القانون وتقديس الحقوق الفردية، لكنها فشلت فى القضاء على خصومها من المتمسكين برؤى مخالفة. انتصرت القوى التحديثية، لكنها أدركت أن النصر على الخصوم لا يعنى إخفاءهم من الوجود. انتصرت قوى التحديث لكن تكاليف الحرب علمتها أن الحلول الوسط أفضل من الحرب، وأن مراعاة مشاعر الخصوم- حتى بعد هزيمتهم- ضرورة لبقاء الجميع. انهزمت القوى التقليدية، وفقدت سيطرتها على مقاليد الحياة العامة، لكنها تعلمت كيف تحافظ على نفسها ورؤاها دون مزيد من المواجهات الدموية التى تضر الجميع. تعلمت هى الأخرى أن الهزيمة فى الحرب لا تعنى نهايتها، ووجدت طرقاً أخرى للدفاع عن نفسها ومصالحها ورؤاها. وهكذا تعلم المنتصر والمهزوم أن للنصر والهزيمة حدوداً، وأن كلاً منهما باقٍ، وأن صراعهما ممتد وبالتالى لا يمكن حسمه بالدم. مثل أى عائلتين متنافستين تتقاسمان الحياة فى قرية سيظلان فيها حتى يوم القيامة، يمكنهما قضاء حياتهما فى القتل والثأر دون أن تتمكن عائلة من إبادة الأخرى، ويمكنهما أن يتنافسا فى الثروة والجاه والمجد دون دماء. بعد فشل القتل والثأر فى القضاء على الثقافة الحديثة أو التقليدية، وجدت الأطراف كلها فى الدولة الحديثة الديمقراطية إطاراً لمواصلة الصراع.

ولأن التقليدى المحافظ هزم فقد قبل بالإطار الديمقراطى الحديث لكنه- فى نفس الوقت- ظل يدافع عن رؤاه وقيمه. ولأن التحديثى المنتصر لم يستطع القضاء على التقليدى، فإن الدولة الديمقراطية التى أقامها لم تكن كاملة ولا مثالية. وهكذا أصبحت الديمقراطية صراعاً مستمراً بين ثقافة حديثة وثقافة تقليدية محافظة (وكل التنويعات فيما بينهما). هكذا استمرت التفرقة العنصرية عقوداً طويلة فى ظل نظام ديمقراطى.. هكذا استمر إقصاء النساء عقوداً طويلة فى ظل نظم ديمقراطية.. هكذا استمر استغلال العمال وقمعهم عقوداً طويلة فى ظل نظم ديمقراطية.. هكذا استمر تقييد الحريات وانتهاك الحقوق الفردية عقوداً فى ظل نظم ديمقراطية.. وهكذا تستمر هذه الانتهاكات اليوم فى ظل نظم ديمقراطية.. بهذا المعنى فإن النظم الديمقراطية عبارة عن أطر سلمية للصراع الثقافى لا حسم نهائياً له.

هل الإجهاض حق فردى (للأم) أم اعتداء على حق الغير؟ هل التنصت على المكالمات بأمر قضائى اعتداء على حق الفرد أم حماية للمجتمع؟ هل السخرية من مقدسات الأغلبية حرية فردية أم اعتداء على حق الغير؟ هل تقييد تمويل الانتخابات حماية للمساواة أم اعتداء على الحقوق؟ كيف تحسم المجتمعات هذه الأسئلة؟ بالصراع فى المجال العام، بما فى ذلك ساحات القضاء. ومؤسسات الدولة تقف موقف حكم المباراة، يتأكد من احترام الأطراف المتصارعة للقواعد دون أن يأخذ صفاً فى الصراع الدائر. وحتى حين ينجح طرف فى السيطرة على السلطة التنفيذية فإن الأطراف الأخرى تحمى نفسها ورؤاها منه، من خلال الصراع فى المجال العام وباستخدام مؤسسات الدولة التى تضمن التزام السلطة التنفيذية بالقواعد المنظمة للصراع.

جوهر السياسة فى الدولة الديمقراطية الحديثة هو الصراع، وحكم القانون هو منظم هذا الصراع. هذا هو الإطار الذى توصلت إليه تلك المجتمعات بدلاً من القتل والصلب وحز الرؤوس.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ١٢ يولية ٢٠١٤