إدارة الصراع الثقافي

ليست تلك هى المرة الأولى التى يندلع فيها صراع ثقافى فى مصر. فمنذ انطلقت عملية التحديث منذ أكثر من قرنين، وعناصر الثقافة الحديثة فيها تتنازع مع عناصر الثقافة التقليدية، والدولة تقف بينهما كفاصل وحكم. حدث هذا مع بدء التصنيع، ومع عودة المبعوثين، ومع انتشار المطبوعات، ومع نشر التعليم الحديث، ومع إنشاء النظام القضائى الحديث وغيرها. تغيرت أوزان كل فريق وحظوظه وقدرته على التأثير عبر العقود، كما تغيرت سماته وتطورت وتداخلت مع عناصر تنتمى للفريق المضاد، لكن قطبى الحداثة والتقليدية ظلا يجذبان هذا المجتمع فى اتجاهين متعارضين طيلة الوقت، وظلت الدولة ممسكة بالبوصلة والميزان فى يدها التى لا ترتعش.

وليس الصراع الثقافى الدائر فى مصر بحالة استثنائية فى العالم. ففى كل البلاد اندلعت حروب ثقافية مماثلة رافقت عمليات التحديث فيها. بعضها خاض صراعاتها الكبرى فى قرون خلت، وبعضها- بما فى ذلك داخل أوروبا نفسها- لم يخضها سوى فى منتصف القرن العشرين أو حتى بعده. وفى كل البلاد لم تزل تلك الصراعات الثقافية مستمرة. حتى المجتمعات المسماة «الحديثة» فى أمريكا وأوروبا لاتزال تغلى بهذه الصراعات التى تدور حول نفس القضايا التى نتحدث عنها: حرية الرجل، وحرية المرأة، والعلاقة بينهما، والعائلة، والحد بين الحرية والفوضى، والعلاقة بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة، ودور الدين فى الحياة العامة وعلاقته بالسياسة، ودور الدولة وعلاقتها بالأخلاق العامة إلى آخره.

لكن هناك فارقا جوهريا بين إدارة الصراع الثقافى هناك وإدارته هنا.

هنا، وقفت الدولة- منذ محمد على- فاصلا بين الأطراف الثقافية المتصارعة، كما وقفت فاصلا بين المجتمع بصراعاته المعلقة وبين العالم الخارجى. فى وقفتها هذه، لم تكن الدولة تسعى لحسم الصراع لطرف على حساب الآخر: لم تكن دولة تحديثية أو دولة تقليدية، بل كانت دولة فحسب، تهدف لاستمرار سيطرتها على الأمن والنظام والاقتصاد والسياسة، وتعتقد فى ثبات أن الصراع الثقافى لا يمكن حسمه دون تهديد السلم الأهلى، ومن ثم اكتفت بالفصل بين الأطراف. وفى قيامها بهذا الدور، صارت الحكم والحامى للجميع: يلجأ إليها كل طرف من أجل توسيع أو تضييق هامش حرية الرأى، تقييد الأخلاق العامة أو تحريرها، تحديث السوق أو حماية أشكالها التقليدية. هى التى تحقق مطلب هذا الطرف أو ذاك، وهى التى تحمى كل طرف من تغوّل الطرف الآخر عليه، (وتهدده بهذا التغول إن أساء أدبه عليها).

قامت الدولة بهذا الدور الفاصل والحامى أيضاً بين المجتمع والعالم الخارجى. فهى تحمى المجتمع من العالم الخارجى الذى يتآمر عليه ليل نهار: هى وحدها التى تستطيع إحباط المؤامرات وصيانة الهوية والدفاع عن القيم. وفى نفس الوقت هى التى تحمى العالم الخارجى من شطط المجتمع وتياراته التى لو تُركت دون سيطرة لأغرقته فى طوفان التطرف والعنف القادم من بطن نفس هذه الهوية التى تصونها. ولا يهم التناقض بين الرسائل المختلفة الصادرة عن الدولة، فهى تتحدث لتكوينات مختلفة بلغات مختلفة. ولأن كل طرف يجد فيها فعليا الحماية التى ينشدها، فإنه يغض الطرف عن الرسائل المناقضة لتلك التى يتلقاها.

عاش جميع الأطراف المتصارعة- فى الداخل والخارج- سعداء لحد ما وتعساء لحد ما طيلة هذه العقود، وتعودوا على الدور الذى خلقته الدولة لنفسها. لكن دوام الحال من المحال. والعالم يتغير وبوتيرة متسارعة، والعولمة التى بدأت اقتصادية وتكنولوجية تعقّدت وتشابكت واشتدت حتى طالت كل مناحى الحياة. وتدريجيا فقدت الدولة احتكار الوساطة بين فئات المجتمع والعالم الخارجى، وصارت كل فئة- بل كل فرد أحيانا- قادرة على الاتصال بالفئات المشابهة لها أو بأى جهة كانت خارج حدود الدولة. وبدأت مصالح الفئات المختلفة- والأفراد- ترتبط بشبكات عالمية لا علاقة لها بالدولة. كم مواطنا أصبح يعتمد فى رزقه على ارتباطه بشبكة ما خارج البلاد (سواء العمل فى دولة أخرى أو فى شركة أجنبية أو مصرية يرتبط عملها بالخارج)؟ كم مواطنا أصبح يعتمد فى تعليمه ومعلوماته وثقافته على ارتباطه بمثل هذه الشبكات؟ وهكذا بدأت الدولة تفقد دور الفاصل الحكم الحامى الموزع تحت وطأة عولمة متسارعة وقاسية. كما بدأت تفقد قدرتها على حماية العالم الخارجى من غضب الأطراف الداخلية- التنظيمات الإسلامية المقاتلة- التى تعولمت فى حركتها وعملياتها.

باختصار، تقلصت قدرة الدولة على لعب دور الوسيط الذى يحتوى الصراع الثقافى داخلها، ولا على دور الوسيط الذى يحمى العالم من نتائج صراعاتها الثقافية المعلقة ويحمى جماعاتها من تأثيرات العالم. ولأن الدولة كانت تحتكر عملية إدارة الصراع الثقافى (عكس ما حدث فى المجتمعات «الحديثة») فإن تقلص قدرتها تلك أدى إلى خروج الصراع الثقافى عن السيطرة.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ٥ يولية ٢٠١٤