الحروب الثقافية

تساءلت فى مقال الأحد الماضى عن كيفية التعامل مع من نختلف معهم فى المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية: كتساوى المواطنين فى الحقوق، أو حرية المواطن فى الاعتقاد وفى السلوك، أو ولاية المواطن على غيره. الإجابة النموذجية هى: نحاول العثور على أرضية مشتركة نقف عليها جميعا. لكن الإجابة الحقيقية، أى ما نقوم به فعليا، هى محاولة كل طرف منا الاستيلاء على الحكم كى يفرض رؤيته على الآخرين ويحبسهم هم ورؤاهم فى الهامش. لماذا؟ لأن هذه المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية لا يمكن حسمها بالحوار. فهى رؤى للذات وللعالم تحدد المقبول من غير المقبول فى حياتنا: مظهر الفرد، أسلوب حياته، إلى الأخلاق والقيم.

وهذه رؤى تتكون أثناء تنشئة الفرد وتسبق المنطق والعقل وتتجاوزه. نسمى هذه الرؤى أحيانا- للتبسيط- الثقافات. وقبل أن نجيب عن سؤال ماذا نفعل فى الخلاف حولها، يحسن أن أبين ملامح ما أظنه ثقافات مصرية ثلاثا متجاورة، ومتصارعة (وليغفر لى المتخصصون هذا التبسيط). الثقافة الأولى توصف أحيانا بأنها ليبرالية أو غربية، وممثلوها الأشهر اليوم هم شباب ثورة يناير: مظهر متحرر، ثقة بالنفس، قلة أدب فى الحديث وشتائم، استهانة بالكبار والقديم والموروث وسخرية منهم، شك وتشكيك فى كل «الثوابت»- من العائلة للحكومة للرموز الوطنية للأخلاق للدين- واستعداد للخروج عنها إن لم يقتنعوا بجدواها أو معناها، إيمان بالمساواة المطلقة والحرية المطلقة والحقوق المطلقة للفرد، ومطالبة بمساءلة السلطة ومحاسبة القائمين عليها دون هوادة أو استثناء. الثقافة الأخرى توصف أحيانا بالإسلامية أو الوهابية، وممثلوها الأشهر اليوم هم السلفيون: مظهر محافظ، تقديس للموروث، إيمان بالتراتبية (خاصة بين المسلم وغيره، وبين الرجل والمرأة)، إخضاع النفس ونوازعها للأوامر الدينية، سمو تعاليم الشرع على الحقوق الفردية، ولاية المسلم على المسلم بالنصح والدعوة ومقاومة المنكر، وخضوع الجميع للمحاسبة- سلطة أو أفرادا- وفقا لالتزامهم بما نص عليه القرآن والسنة والسلف الصالح. الثقافة الثالثة التى يصورها الإعلام على أنها الثقافة «المصرية الأصيلة»، خليط غير متجانس من هاتين الثقافتين. فهى تقوم على إقرار نظرى بقيمهما معا، دون اهتمام بالتناقض فيما بينهما. هذه الثقافة تقر بالمساواة وبالتراتبية فى نفس الوقت، تقر بالحرية الإنسانية وبالسلطة الفوقية المفروضة على الإنسان وحريته (المجتمع أو الدين)، تقدس القديم والموروث وتقر بالحق فى تجديده ومراجعته معا، وهكذا.

كيف تحل هذه الثقافة تناقضاتها؟ أولاً: باللعب على فكرة الدرجة، فالحرية مثلا درجات، بعضها مقبول وبعضها متجاوز. وثانياً: بتحميل الفرد مسؤولية التناقض: فبعض التحرر فى مظهر المرأة مقبول- دون الأساس الفكرى للتحرر، وبالتالى تحميلها المسؤولية إن تعرضت للتحرش. وثالثاً: بقبول ازدواجية بين المعلن والمخفى، وبين السلوك العام والسلوك الخاص، نتعلم التغاضى عنها حتى تصبح «عادية». وأهم ما يحمى هذه الثقافة وتناقضاتها هو استبداد الدولة، فهى الثقافة التى تدعمها الدولة وتحميها- بالقوة أحياناً- منذ محمد على حتى اليوم. فالدولة هى التى تضع حدود حرية الفرد، ومسؤوليته، وتسمح بالازدواجية أو تعريها، وتقمع المنتمين للثقافتين الأخريين إن تجاوزوا الحدود التى ترسمها. وما المشكلة فى كل هذا؟ ألم نعش هكذا طيلة عمرنا، بتناقضاتنا ومتننا وهوامشنا؟ المشكلة أن الواقع الثقافى المصرى تغير لدرجة لم تعد تنفع معها هذه المعادلة. فقد تقدمت الثقافتان غير المدعومتين من الدولة، واجتذبتا أعدادا أكبر من أى وقت مضى، وأصبح ممثلوهما من الشجاعة والقوة التى تجعلهم ينافسون على مركز الثقافة الرئيسية. لم تعد الثقافة الحديثة (المسماة الليبرالية أو الغربية) مقصورة على الطبقات الحضرية العليا أو «النخبة»، ولم تعد الثقافة التقليدية (المسماة الإسلامية أو الوهابية) مقصورة على الطبقات الفقيرة والجاهلة فى الريف وعشوائيات المدن.

اليوم، أصبح كثير من سكان الأرياف والعشوائيات، خاصة من أجيال الشباب والوسط، يعبرون عن القيم الثقافية الحديثة، وكثير من المنتمين للطبقات الحضرية العليا و«النخبة» يعبرون عن قيم الثقافة التقليدية. فى نفس الوقت، لم تعد تناقضات الثقافة الهجينة التى تساندها الدولة (المسماة زورا الثقافة «المصرية الأصيلة») مقبولة ولا محتملة فى نظر أعداد كبيرة من الناس، خاصة بين الأجيال الأحدث، الذين يرون فيها نفاقا لا وسطية. باختصار، ما كان يُعتقد أنه هامش ثقافى لم يعد هامشا، وما كان يُظن أنه متن تهاوى، وما كان مسكوتا عنه خرج إلى العلن. ومع انفجار النظام السياسى فى يناير 2011 والصراعات السياسية التى مهدت له ورافقته وتلته، وكجزء من هذه الصراعات نفسها، أخذ المنتمون لكل من هذه الثقافات الثلاث يتدافعون، كلٌّ يؤكد رؤاه ويهاجم الرؤى الأخرى، مُكِيلا لها اتهامات التخلف أو الكفر أو الخيانة، دون أن يتمكن طرف من القضاء على طرف آخر. لكن تلك ليست المرة الأولى التى تندلع فيها حرب ثقافية فى مصر.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ٢٨ يونية ٢٠١٤