وحدنا .. كلنا

حين تساءلت فى الأسبوع الماضى عن جدوى كتابة مقالات الرأى فى ظل غياب نقاش عام (أو خاص) حقيقى، كنت أسأل بجد وليس ندبا ولا استسلاما. ومن ثَمّ فقد اهتممت بالبحث عن إجابة، سواء بالتمعن فى تعليقات ورسائل قراء أو من خلال حوارات دارت بينى وبين أصدقاء وزملاء.

وأول ما فهمته أن غياب النقاش العام الذى نعانى منه، وما يصاحبه من تخوين واتهامات وطعن فى نوايا أصحاب الرأى، ليس حالة فريدة من نوعها. فقد لفت أحد الأصدقاء نظرى لمقال كتبه أستاذ الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد «بول كروجمان» فى صحيفة «نيويورك تايمز» يوم 8 الجارى. فى هذا المقال يقول «كروجمان» إن المعارضة الشديدة- داخل أمريكا- للإجراءات اللازمة لمقاومة الاحتباس الحرارى لا يمكن تفسيرها بالكلفة الاقتصادية لهذه الإجراءات. فمن الناحية الاقتصادية البحتة سيتم تعويض تكلفة هذه الإجراءات فى مدى زمنى معقول، كما سيترتب على بعضها دفع النمو الاقتصادى لمعدلات أعلى، كما حدث مع إجراءات بيئية مشابهة فى عدد من القطاعات، بما فى ذلك قطاع الفحم.

القوى اليمينية التى تتزعم معارضة هذه الإجراءات ترفضها من منطلق عقائدى، يشكك فى الإجماع العالمى لعلماء المناخ ودارسيه، وترى فى هذا الإجماع مؤامرة عالمية ضخمة متورطاً فيها آلاف العلماء وبعض دوائر الحكومة الأمريكية من أجل تبرير التدخل الحكومى فى الاقتصاد وتوسيع دور الدولة على حساب الحرية الاقتصادية المطلقة. يقول «كروجمان» فى مقاله إن هذا تفكير معاد للعلم وللعقل، ويستند إلى عقيدة يمينية جامدة وكثير من الجهل والغرور. هذه الأفكار والعقائد تنتج عن التعليم والتنشئة، بالمعنى الواسع، ودرجة التسامح والتشدد وعوامل نفسية أخرى، وبالتالى فلا فائدة من مجابهتها بنقاش عقلانى أو بحث موضوعى فى السبل والعقبات.

قال لى الصديق: هذا هو حال «النقاش العام» فى أكبر دولة فى العالم حول موضوع يؤثر على الحياة اليومية للملايين وعلى مستقبل كوكب الأرض، وهذا أستاذ الاقتصاد المرموق بكتبه ودراساته وجوائزه والتقدير العالمى الذى ناله لا يمكنه إقناع متعصب واحد بأن لا وجود لمؤامرة عالمية على حرية اليمين الأمريكى. الكتابة العقلانية أو الإنسانية تستهدف من لديه عقل، هذا هو الجمهور الذى يخاطبه «كروجمان» وكل كاتب عاقل. سألته: وماذا عن بقية الناس؟ رد: يتركهم لأصدقائهم المتعصبين يغرقون فى تعصبهم. المخرج «يسرى نصرالله» علق على مقالى بقوله إن الهستيريا مرض معد، وإن الكتابة العقلانية أو الإنسانية (جعلنا الله من أهلها) تساعد فى تقوية المناعة والحد من انتشار الهستيريا. عملياً، يعنى هذا أن نخاطب الجميع على أمل تقوية عقلانية وإنسانية من لديه استعداد ولو بسيطا للنظر فيما يقوله الآخرون. ليس الهدف أن نقنعهم بآرائنا، وإنما أن نقوى لديهم ولدينا الملكة التى نظن أنها تميزنا كبشر، وهى استخدام العقل. ومن يدرى، ربما تصيب الكتابة العاقلة شخصا على تخوم الهستيريا فيعود أدراجه ولو خطوات.

الكاتبة «أهداف سويف» قالت لى إن الكتابة العقلانية فى زمن الهستيريا أشبه بحمل ضوء صغير، يراه من يفهمه فيعرف أن هناك نقطة ضوء أخرى، ولو صغيرة، وأنه ليس وحده فى خضم الجنون. هذا التشبيه ذكّرنى بأفلام ما بعد الكارثة، حيث يتركز هدف البطل الناجى من الكارثة فى العثور على أحياء آخرين مثله كى يعيدوا معا الحياة للكوكب المصاب. مجرد العثور على عدد بسيط من الناجين يشكل انفراجة عقدة الفيلم ومفتاح الأمل. فما بالك ونحن لسنا فى كوكب ضربته كارثة، ولسنا مجرد حفنة من الناجين. لو أمسك كل منا بضوء صغير فمن المؤكد أننا سنغشى عيون الهستيريا ونعيدها لمكانها الطبيعى على هامش المجتمع.

هذه الأسباب الثلاثة تقوم على قاعدة استهداف الكاتب لجمهور محدد يتفق معه فى منطق التفكير نفسه، (مثل الاحتكام لقواعد التفكير العقلى أو العلمى أو الدينى أو حتى كراهية التفكير والمفكرين بأنواعهم)، وفى المبادئ الحاكمة للحياة (كمبدأ المساواة- أو الاختلاف- فى الحقوق بين البشر، أو حق كل فرد فى الاختيار ومسؤوليته عن اختياراته). وهى بلاشك أسباب وجيهة للكتابة فى زمن الهستيريا.

لكن جزءاً من سؤالى يظل عالقاً: ماذا عن هؤلاء الذين نختلف معهم حول الأمور الأساسية؟ ماذا عن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالمساواة فى الحقوق أو الذين يرون لأنفسهم حقا فى فرض رؤاهم على غيرهم أو الذين يتبعون منطقا فى التفكير يعادى المنطق والتفكير؟ هل نفقد الأمل فى التواصل معهم بالكلمات؟ وفى هذه الحالة كيف نتعايش سويا فى مجتمع واحد؟ أم نعيش على أساس أننا شعب وهُم شعب وكل منا قابع فى زاويته يسن أسنانه فى انتظار الانتخابات (أو الثورة) التالية ليمسك بدفة الحكم ويطبق رؤاه؟

نشر في المصري اليوم بتاريخ ٢١ يونية ٢٠١٤