هستيريا

مقال الرأى، فى نظرى، هو إسهام فى النقاش العام. ومن ثم، كى يكون له معنى، يجب أن يكون هناك نقاش عام. اليوم، لا يوجد فى مصر نقاش، لا عام ولا خاص. فالنقاش يعنى تبادل الرأى: أعبر عن فكرة فينظر فيها المتلقى ويفحصها ويرد بسؤال يستوضحها أو يكشف عن خلل فيها، أو يرد بفكرة أخرى تكملها أو تحل محلها. اليوم، سواء بين الأصدقاء والمعارف أو فى المجال العام، يتربص المتلقى بصاحب الرأى ليعرف- أولاً- إن كان معه أم مع «الآخرين»: يبحث فى كلامه عن مفاتيح ليصنفه فى خانة ما (فاشى، دولجى، أناركى، طابور خامس، إخوانى، كنبة، فلول) ثم يلصق به الصفات التى يحتفظ بها فى نفسه لأصحاب هذه الخانة. لا فحص للرأى، لا محاولة للتفكير: لا نقاش، بل تصنيف يعقبه- غالباً- تنكيل.

الأصل أن يدور النقاش فى الأمور التى يتفق الناس على إمكانية تناولها من عدة أوجه. لذا لا يتناقش العاقلون فى قضايا إيمانية- لأنها غير حمالة أوجه. كما لا يتناقشون فى الأذواق والألوان وتشجيع الأندية الرياضية، لأنها تعكس ميولاً شخصية لا تتغير بالنقاش. فلا يمكنك إقناع أحد بتغيير لونه المفضل أو فريقه المفضل، لكن يمكنك إقناعه بأفضلية التحول للدعم النقدى أو تجنبه، بأولوية التنمية الاقتصادية والاجتماعية على الديمقراطية أو العكس، وهكذا. فهذه أمور يحسن الخلاف والنقاش فيها كى يصل الناس لحلول تناسبهم أكثر، وبعد تبصر وفهم أكبر لتبعات اختياراتهم.

ومن ثم فمناقشة الآراء العامة لا تحتمل السباب ولا اتهامات الخيانة والعمالة ولا الطعن فى النوايا والنزاهة. ليس هذا من باب الاحترام المتبادل بين الناس وحسب، بل من حيث سلامة منطق النقاش نفسه. فالأفكار التى يطرحها صاحب الرأى هى أفكار حول قضايا خلافية بطبيعتها. فلا يمكن- منطقياً- القول بأن من يفضل النظام البرلمانى عن الرئاسى (أو العكس) هو خائن أو انتهازى. وحين تصل مناقشة الآراء العامة لتوجيه مثل هذه الاتهامات لأصحاب الآراء المختلفة، فإن هذا يعنى أن المناخ العام قد تجاوز حال النقاش إلى حال الهستيريا. وللأسف فهذا هو حالنا اليوم.

سؤالى هو: ما فائدة كتابة مقال رأى فى ظل هذه الهستيريا؟ هل هو من باب إثبات الحالة: كى يكون لدى الكاتب دليل أنه قال كذا يوم كذا؟ أم هو عند فى الهستيريين: كى لا يترك الكاتب لهم المجال العام بالكامل؟ أم لإسعاد من يتفقون معه فى الرأى وطمأنتهم أنهم ليسوا وحدهم؟ أم على أمل أن تسمعه «الدولة» وتتبع نصائحه؟ أم «فش خلق» كما يقول اللبنانيون؟

لا أرى فائدة ترجى من إثبات الآراء، فمعظمها لا يستحق التأريخ. ولا فائدة ترجى من العناد مع هستيريين، فالهستيريا مرض لا اختيار، يعالجها الزمن أو يتركها لتغفو، أما الصراخ فى وجهها فلا ينوبك منه إلا الصداع. كما أن مناجاة الدولة سراب لا يفيد، فمسام بشرتها مغلقة لا تمكن أحداً من خارجها من التأثير فى قراراتها (ولا حتى من داخلها فى معظم الأحوال)، وهناك طرق أكثر نجاعة لـ«فش الخلق» من الكتابة.

ما فائدة كتابة الرأى إذاً؟ يقول البعض إنها أكثر ضرورة فى هذه الظروف العصيبة، لأن الكلمة هى التى تكافح جنون الاضطهاد والجهل والغباء والتطرف وقلة الإنسانية واليأس والأنانية. لكنى لا أفهم. ما فائدة أن تقول لمن أصابه جنون العظمة أو الاضطهاد أنه مريض؟ هل يستمع إليك أم يظنك جزءاً من المؤامرة على عظمته؟ ما فائدة أن تقول للغبى إنه غبى: هل يهبط عليه نور من الله يضىء تلافيف عقله الصدئة أم ينصرف عنك فخوراً بغبائه؟ كيف تفهم الجاهل أنه يحتاج للتعلم، إن كان لا يعلم أنه لا يعلم؟ كيف تشرح لغليظ القلب أن الرفق والتسامح والتفهم من شيم الإنسان التى رفعه الله بها فوق سائر المخلوقات إن كان قلبه مغلقاً لا يسمع؟

كيف تشرح للجريح أن الصراخ لن يشفيه من الألم ولن يضمد جرحه؟ وما فائدة نصح المتطرف أن التوسط فضيلة لأنه وحده الذى يجمع الناس على اختلافهم؟ ما فائدة أن تقول للأنانى الذى لا يرى سوى نفسه، وهمه، وألمه، ورأيه، وخوفه، أن عليه وضع نفسه موضع الآخرين إن أراد فهم سلوكهم ومواقفهم؟ ما فائدة أن تقول للقاعد أن العمل هو السبيل لتقدمه لا الكلام؟ أليست هذه كلها بديهيات؟ وإن كان القارئ لم يتعلمها أو يفهمها أثناء نموه فما جدوى تكرارها؟

هل يتوجه الكاتب لجمهوره فقط، لمن يتفق معه فى الرأى؟ وما جدوى كتابته فى هذه الحالة؟

أليس الصمت وسط الهستيريا أكرم؟

ليس سؤالى هذا يأساً ولا انسحاباً، وإنما بحث حقيقى عن إجابة.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ١٤ يونية ٢٠١٤