رئيس بشبشب وشورت

إن أردت توصيل مياه النهر لأرضك أو صرفها عنها فأنت لا تناشد المياه أو تأمرها، بل تحفر لها مجرى يحملها إلى حيث تريد. هل يمكنك جعل النهر يسير فى عكس اتجاهه بالأوامر؟ لا، لا يمكنك، مهما كان صدق مشاعرك وقوة عزيمتك. ومثلما يتعين عليك أن تحفر للمياه مجرى يتفق وطبيعة الأرض واتجاه النهر، كذلك يتعين على الحاكم الذى يريد دفع الناس فى طريق أن يربط مصلحتهم بهذا الطريق، لا أن يوجه لهم الأوامر أو المناشدات.

مثلا، إن أراد الحاكم دفع الناس لتقليل استهلاكهم من الكهرباء، فلن يفيده فى شىء أن يناشدهم التوفير «من أجل مصر». بذمتك: هل ستطفئ التكييف أو الغسالة من أجل مصر؟ نسبة من يستجيبون للمناشدات ضئيلة، أما أغلبية الناس فتتبع مصلحتها الفردية، وهذا أحد قوانين السياسة. الحكومة التى تريد تقليل استهلاك الكهرباء فى أوقات الذروة ترفع سعرها فى هذا الوقت وتخفضه فى الأوقات الأخرى، وهكذا تخلق للناس مصلحة فى توجيه استهلاكهم لوقت غير الذروة. وهكذا فى كل أمور السياسة: على الحاكم معرفة مصلحة الأفراد والمجموعات التى يريد تحريكها فى اتجاهه، وخلق مصلحة لهم تدفعهم للسير فى هذا الاتجاه. توجيه الأوامر للناس أو وعظهم لا يفيد. وسأضرب لك أمثلة ثلاثة:

1- الرئيس القادم سيحكم بلداً نصفه من الفقراء، لن يتعاونوا معه «من أجل مصر». لا العمال ولا الفلاحون ولا الحرفيون ولا أشباه العاملين والعاطلين ولا حتى موظفى الدولة نفسها سيتعاونون معه ما لم يقدم لهم شيئاً من الأشياء التى يحتاجونها. إن لم يروا تحسنا فى ظروفهم المعيشية المباشرة فلن يتعاونوا معه مهما شرح لهم عجز الموازنة وفجوة الادخار المحلى ومعدل النمو السكانى. هؤلاء الناس على حافة الانفجار، والكلام لا يغنى ولا يسمن من جوع، مهما كان صحيحا. أكثر ما يمسهم هو المصلحة المباشرة: زيادة فى الدخل، سلع أرخص، توفير خدمات غائبة، إلخ. فإن لم يكن لدى الرئيس القادم الوسيلة لتحسين حياة هؤلاء فلن ينتظروه. إن لم يكن لديه وسيلة لإصلاح الجهاز الإدارى للدولة فلن ينصلح من تلقاء نفسه «من أجل مصر». ولن تفيدنا الأمانى الطيبة فى شىء حين ينفجر نصف البلد غضبا من الفشل.

2- الرئيس القادم سيحكم بلدا ثلاثة أرباعه من الشباب، ولن يمكنه الحكم ما لم تسانده هذه الأغلبية. ولتحقيق ذلك، على الرئيس القادم تلمس الوسائل التى تجعل الشباب، وفق تفكيرهم هم، ينظرون له نظرة ثقة. أما مناشدتهم الالتفاف حوله «من أجل مصلحة مصر» فلن تنفع فى شىء. أما إذا كان المرشح الرئاسى قد فقد ثقة الشباب بغير رجعة، أو كان غير قادر على التواصل معهم، فلا هم يفهمونه ولا هو يفهمهم، فعليك أن تفكر جدياً قبل أن تعطى هذا المرشح صوتك. فلا الطبل ولا الزمر ولا المناشدات ولا الأوامر ستفيدنا حين يكون رئيسنا جالسا على عرش يتآكل بفعل كراهية وعداء أغلبية المجتمع.

3- الرئيس القادم سيحكم بلدا منقسما على نفسه، ولا أحد يمكنه الانتصار وحده على كل القوى السياسية الأخرى. مهما كان إخلاصه فى الدفاع عن المصلحة الوطنية، لا يمكن لطرف واحد السيطرة على بقية الأطراف، مهما امتلك من وسائل. اعتماد الرئيس على مناشدة هذه القوى الالتفاف حوله «من أجل مصر» لا يفيد، واعتماده على الإعلام كى «يبصر الناس بالصواب» لا يفيد. الشىء الوحيد الذى قد يفيد هو أن يكون الرئيس القادم قادرا على الاتفاق مع هذه القوى – أو أكبر عدد منهم – على الأمور التى تهمهم، بحيث يجدون مصلحة تدفعهم للتحالف معه أو على الأقل عدم مناوأته.

باختصار، كى يستطيع الرئيس القادم حكم البلد عليه احترام مصالح المجموعات الرئيسية فيه والبحث عن طريقة لربطها جميعا بالطريق الذى نريد السير فيه (وهذا هو ما يعرف بممارسة السياسة). أما إن لم يكن لديه سوى الأوامر والأمانى فلن ينجح.

الرئيس الأمريكى كينيدى قال ذات يوم إن الفكرة الشائعة عن الرئيس بأنه «قائد أعلى» يصدر التعليمات والأوامر فيطيعها الجميع هى فكرة خيالية، وأن الصورة الأقرب للواقع هى الرئيس الذى يرتدى «شبشب وشورت» ويتفاوض مع ممثلى المجموعات السياسية المختلفة كى يوجد تأييدا لسياساته.

لا أحد يحتاج رئيساً يتصرف وكأنه «قائد أعلى» يصدر أوامر للمنقسمين أن يتحدوا، وللكسالى أن يعملوا، وللمتبرمين أن يصمتوا. ما تحتاجه البلاد، أى بلاد، هو رئيس يمشى على الأرض ويحفر مع الناس قنوات تجرى فيها مصالحهم، فيوحد المنقسمين، ويوجد للكسالى مصلحة فى الحركة، ويعالج تبرم المتبرمين. ما نحتاجه هو رئيس يستخدم السياسة كى يوجد تأييدا لسياساته بين فئات الناس فيتمكن من تنفيذها.

اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.

نشر في المصري اليوم في ١٠ مايو ٢٠١٤