مواطن وكاتب وسياسي

المواطن حر، يفعل ما يحلو له. يقاطع الانتخابات إن شعر بأنها محسومة سلفاً، أو مطبوخة، أو غير عادلة، أو أنها لن تشكل فرقاً فى حياته. ويشارك فيها إن عنّ له ذلك. يصوّت لمرشح أمنى إن كان يشعر بالخوف، أو لمرشح جرىء ينظر للمستقبل إن كان قد ملّ الماضى وأهله. يوافق على دستور أو يرفضه لمجرد أن به مادة يحبها أو يكرهها، أو يقاطع العملية برمتها إن شعر بأنها لا تليق به. المواطن يفعل ما يحلو له، مهما تقول له وسائل الإعلام والكتاب والسياسيون. قراره يتخذه بينه وبين نفسه، وينفذه بغض النظر عن العواقب عليه وعلينا.

ولهذا فإن المواطن هو سيد اللعبة فى أى نظام سياسى، سواء كان النظام قائماً على الانتخابات أو غير ذلك. فمن يملك التأثير على المواطن يملك قوة سياسية كبرى. ولذا فكل الأطراف تلعب على المواطن، حتى فى النظم الاستبدادية: تلعب على عقله وقلبه وجيبه ومخاوفه.

وليس لنا فى نهاية الأمر إلا القبول بقراراته مهما أثارت أعصابنا، ومهما كانت غبية من منظور المصلحة العامة. إن لم تعجبك قرارات المواطن عليك الدخول فى لعبة التأثير عليه. لا حل أمامك غير هذا. يمكنك طبعا أن تشتم المواطن، وتنعته بالجهل والحماقة والتفاهة وتعزى نفسك بأنه لا يستحقك. اشتمه إن كان هذا يسعدك، لأن السعادة التى ستهبط عليك جراء سب المواطن هى الفائدة الوحيدة لهذا السلوك.

الكاتب السياسى هو من تبرع بقول رأيه فى الشؤون العامة، وهو أيضاً حر. من حقه أن يدعم الحرية إن شاء، أو يدعم القبضة الحديدية إن كان يرى ذلك أفضل. هناك كتاب سياسيون على كل لون وشكل. المهم فى الكاتب ألا يكون طبالاً، لأن هذه مهنة أخرى تختلف عن الكتابة السياسية، وهو غالبا غير مؤهل لها. مهم أيضاً ألا يكون بوقاً لغيره، أو نصاباً يحتال على قارئه كى يضلله. وأن يدرك أن هناك أناسا قد يقرأون ما يكتبه فعلا، وقد يصدقون أفكاره فعلا، فيمارس بعض المسؤولية فيما يكتب.

غير ذلك فمن حق الكاتب أن يقول ما شاء: يدعو لمقاطعة الانتخابات أو المشاركة فيها، ينحاز لهذا المرشح أو ذاك، يتخذ خطاً عملياً أو يكتفى بالرثاء لحال الدنيا ويكتب الشعر بكاء على سوء المآل. هو حر، يكتب ما يمليه عليه خياله وضميره وفكره.

أما السياسى فليس حرا على الإطلاق. لأنه يطرح نفسه كقائد لجمهور، يدعوهم للحركة فى اتجاه ما، خلف قيادته، على أساس أن حركتهم وتضحياتهم وقيادته لهم ستمكنهم من تحقيق الأهداف التى يحلمون بها. ومن ثم فهو مسؤول عن هؤلاء الذين يصدقونه ويمشون خلفه ويدفعون ثمناً لكل ما يحققه هو من نجاح. السياسى قائد لجمهور، ومحامى هذا الجمهور ومندوبه فى المجتمع، ومن ثم لا يحق له التخلى عن هذا الجمهور وتركه فى الهواء، ولا يحق له أن يتصرف كمواطن فرد، ولا حتى ككاتب يدلى بآراء سياسية.

ليس من حق السياسى أن ينسحب من الانتخابات دون أن يقول لجمهوره ماذا يفعل عوضا عن المشاركة: هل سنطلق ثورة؟ هل سنخطط لانقلاب؟ هل سنبدأ عملا تنظيميا نبنى به شيئا يمكننا من العودة وتحقيق أهدافنا فى وقت معلوم، أم سنكتفى بالتعبير عن غضبنا فى المقاهى والأندية وصفحات التواصل الإلكترونى؟

ليس من حق السياسى أن يدعو أتباعه لمقاطعة التصويت على الدستور بسبب عشر مواد يرفضها، دون أن يقول لهم ماذا يفعلون كى يصلوا إلى دستور يخلو من هذه المواد العشر ويحقق لهم أحلامهم. ليس من حق السياسى أن يستقيل من منصبه الذى دفع جمهوره فيه دمهم، لمجرد أن ضميره وجعه، تاركاً جمهوره فى العراء، ودون أن يقول لهذا الجمهور ماذا يمكنه أن يفعل كى يحقق الأهداف التى اتبعوه من أجلها.

ليس من حق السياسى أن يتصرف ككاتب، ولا حتى كمجرد مواطن، لأن دوره الذى سعى بيده إلى القيام به هو قيادة حركة الناس نحو تحقيق أهدافهم. ومن ثم فعليه أن يبحث دائما، كل يوم، عن خطوة عملية يتخذها هو أو أتباعه كى تقربهم من هذه الأهداف.

وإن تعذر ذلك، بسبب ضعفهم أو قوة خصومهم أو صعوبة الظرف، فعليه أن يجد الوسيلة العملية التى تبقى عليهم معا، وتسمح لهم باتخاذ ولو خطوات بسيطة تقلل من الضرر الواقع عليهم، بحيث يمكنهم الاقتراب ولو بعض الشىء من أهدافهم. ليس من حق السياسى ألا يكون عمليا فى حركته، مهما كان حالما فى أهدافه.

أما من يرد التصرف على هواه دون الرجوع لأحد غيره، ودون التفكير فى عواقب أفعاله على جمهوره، فليعتزل السياسة ويتصرف كمواطن.

ومن يرد أن يأخذ مواقف مبدئية مشرفة تسعده وتشعره بالنصاعة، دون أن يقدم لجمهوره خطة عملية تقربهم من أهدافهم، فليعتزل العمل السياسى وينضم لقائمة كتاب هذه الجريدة أو تلك.

نشرت في المصري اليوم في ٢٢ مارس ٢٠١٤