الوطنية الجديدة

أقول إن الفكرة القومية بشكلها التقليدى، المتمثلة فى شعارات مثل «مصر هى أمى» و«مصر فوق الجميع»، تنحسر. لماذا؟ لأن المصريين رأوا العالم واحتكوا به. اليوم هناك ملايين من المصريين منتشرون فى بلاد العالم، من كل ربوع مصر وقراها، يعيشون مستقرين، وكثير منهم لا يخطط للعودة. تقابلهم فى مطاعم إيطاليا وتاكسيات نيويورك وشوارع الدول العربية وبيوتها، وفى جامعات العالم كله. اختلط هؤلاء الملايين بغيرهم من الشعوب وعايشوهم، وعرفوا أن فى كل شعب الصالح والطالح، وفى كل بلد الطيب والخبيث، وفى كل دولة مميزات وعيوب. ذهبنا لبلاد كنا نظنها أقل من بلادنا تقدماً فوجدناها قد تقدمت فى مناح حتى تجاوزت بلادنا، وذهبنا لبلاد كنا نظنها سبقتنا وتباينت بيننا السبل حتى صاروا بشرا غيرنا، فوجدنا بيننا وبينهم أشياء مشتركة كثيرة.

ومن لم يسافر منا شاهد وتفاعل من هنا، على شاشات التليفزيون والسينما والكمبيوتر. عشرات الملايين من المصريين من كل الطبقات والفئات الاجتماعية اختلطت بشكل أو بآخر بالعالم الخارجى وعرفت، تدريجيا وفى هدوء، ودون أن يقول لها أحد، أن أكرمنا عند الله أتقانا، وأن أفضلنا حالاً على الأرض أكثرنا تنظيما وذكاء وأحسننا عملا. عرف ملايين المصريين أن العبرة ليست بالعرق ولا بالدين ولا بالموقع الجغرافى ولا بالسبعة آلاف سنة. بهدوء شديد ودون ضجة، انصرفت نفوسهم وعقولهم عن القومية القائمة على نعرات التفوق إلى وطنية جديدة تقوم على فكرة المواطنة. وأصبحت دعاوى التفوق هذه تثير فيهم الابتسام والسخرية.

هؤلاء الذين تغير تفكيرهم لم ينحسر انتماؤهم لمصر مثلما يزعم القوميون المولعون بالصراخ واتهام الغير دون سند. إنما نضج مفهومهم للوطنية وتخلص من العداء للغير ومن الشعور الوهمى بالتفوق الذى يخفى تحته شعورا عميقا بالنقص. ينتمى هؤلاء الوطنيون الجدد لمصر، لأنها بلدهم التى ارتبطوا بها عاطفيا، والتى لهم فيها حقوق كاملة، ولأنها سندهم أمام العالم، لا لأنها أفضل البلاد ولا أجملها ولا أعظمها.

رأوا الأوطان الأخرى ملاذاً لأبنائها فأرادوا أن يكون وطنهم ملاذا لهم أيضا. رأوا الوطن الذى يساوى بين المواطنين- أو على الأقل يحاول تحقيق هذه المساواة ويعطيها فرصة- فأرادوا لوطنهم أن يكون إطارا للمساواة فيما بينهم. دون تقعر ودون طنطنة، تقبل هؤلاء الملايين فكرة المساواة بين المواطنين مهما اختلفت أعراقهم أو دياناتهم أو شكلهم أو أفكارهم، طالما التزموا بالقانون مثل بقية المواطنين. تقبلوا فكرة المساواة بين المواطنين وأصبحت جزءاً من شعورهم بالوطن نفسه.

هؤلاء الملايين ليسوا حالمين سذجا: يعرفون أن العالم قاسٍ، وأنهم يحتاجون للوطن وللدولة الوطنية كى تحميهم. لكنهم يرون الوطن ودولته أداة لحماية تفاعلهم مع العالم، لا قوقعة تنغلق عليهم وتعزلهم عن هذا العالم أو تحاربه. يرون العالم متسعا ومتداخلا ويريدون أن يصبحوا جزءاً منه: يريدون مزيداً من القدرة على السفر والاختلاط والاستفادة من هذا العالم، لكنهم يشعرون بالحاجة لدولتهم كى تحمى مصالحهم وتعينهم على هذا الانخراط. ومن ثم فهم يريدون دولتهم قوية، لكنهم لا يريدونها أن تعادى أحدا دون داع، بل على العكس، يفضلون تجنب الصراعات ما استطاعوا لذلك سبيلا. ويريدون الدولة قوية كأداة للحماية، لا كهدف فى حد ذاته. فالأساس عندهم هو حماية الناس لا الدولة. الوطن عندهم هو الشعب لا الأغانى التى نغنيها عليه. والدولة هى حامية الشعب وأداته، لا أمه ولا أبوه، ولا هدف نضحى بالشعب كى نحميه.

هذه الرؤية الجديدة للوطنية تعيش جنبا إلى جنب مع الرؤية القومية القديمة. ومثل كل الرؤى الاجتماعية الكبرى، تزيح الواحدة الأخرى تدريجيا. لن يقنع أصحاب هذه الرؤية أتباع تلك مهما تجادلا، ومهما سبّ بعضهم بعضاً. إنما ستستمر رؤية فى إزاحة الأخرى حتى تصبح هى السائدة وتحول الأخرى لرؤية هامشية.

الذى يحدث فى مصر هو نمو هذه الوطنية الجديدة وإزاحتها شيئا فشيئا للقومية القديمة من أذهان الناس، وهذا جزء من الثورة الفكرية المستمرة داخل المجتمع منذ سنوات. فهذه الوطنية الجديدة أكثر اتساقا مع الروح الحديثة الصاعدة فى مصر: تتناغم مع رغبة الناس فى الحرية، وشعورهم بأن لهم حقوقا لا يصح انتزاعها منهم، وشعورهم الجارف بالمساواة وبالرغبة فى احترام الدولة والمجتمع لهذه المساواة، وشعور الأفراد بذواتهم الفردية ورغبتهم فى حمايتها وتنميتها، وشعورهم الجارف بضرورة إصلاح أجهزة الدولة بشكل جذرى كى تحقق تطلعاتهم. ولأن الوطنية الجديدة أكثر اتساقا مع هذه الروح، ولأن هذه الروح فى طريقها لتسود المشهد الاجتماعى والسياسى، فإنى أقول على القومية القديمة السلام.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ٨ مارس ٢٠١٤