أمة واحدة ذات رسالة خالدة

الثورة المصرية تشمل تحولات كبرى ومتعددة، وأحد تحولاتها هو تدهور الفكرة القومية وتحلل الأساس الفكرى الذى لا يمكن للمشروع القومى الحياة دونه. قد لا تلحظ هذا التدهور فى خضم التفاصيل السياسية الجارية، لكنه مثله مثل المواجهة بين الجيل القديم والأجيال الجديدة، يجرى تحت السطح، وينعكس فى مؤشرات بسيطة لكنها دالة.

الفكرة القومية ليست أزلية، بل ولدت منذ حوالى قرنين، وقد تموت. فقد عاشت الشعوب آلاف السنين دون أن ترى نفسها أمما موحدة ذات رسالة خالدة. ارتبط الناس دوماً ببعضهم، وبمدنهم وقراهم وبلادهم ولغاتهم وأديانهم، لكن الانتماء إلى «أمة» عابرة للزمان لها سمات خاصة تميزها عن بقية الأمم ومرتبطة بإقليم الدولة هو أمر حديث نسبيا يرجع للقرن الثامن عشر، خاصة مع الثورة الفرنسية.

الفكرة القومية لطيفة وهى نائمة لا تختلف كثيرا عن الوطنية، أى استعداد الناس للتضحية من أجل حماية أهلهم ووطنهم. لكن الفكرة القومية- عكس الوطنية العادية- تحمل فى طياتها نوازع إن استيقظت تحولت لوحش كاسر يحطم كل ما حوله ثم يحطم نفسه. تتلخص هذه النوازع فى اعتقاد الناس أنهم أمة واحدة أفضل من بقية الأمم، ولهم سمات غير موجودة فى غيرهم. فأطفال هذه الأمة أذكى أطفال العالم، ورجالها أكثرهم ذكورة، ونساؤها أكثر أصالة، وأخلاقها أسمى، وأرضها أجمل، وهى أم الحضارة أو على الأقل مهدها، وإسهاماتها فى العلم والثقافة ليس لها مثيل، وقد حماها الله، وقدر لها رسالة خالدة عليها أداؤها للبشرية.

هكذا قال الروس عن «روسيا الأم»، والطليان عن الأمة الإيطالية، واليابانيون عن الأمة اليابانية، والألمان عن الأمة الألمانية، والعرب عن الأمة العربية، وهكذا. لكن كيف يفسر هؤلاء سوء الحال الذى تعيشه أمتهم الواحدة ذات الرسالة الخالدة؟ كيف يفسرون أنها لا تقود العالم مثلما قدر لها، وإنما ترزح تحت نير الفقر والجهل والتخلف؟ هل يمكن لأمة تلك صفاتها أن يكون هذا حالها؟

بالطبع لا، إنما هذا التخلف نتيجة المؤامرات التى توالت على هذه الأمة من أعدائها فى الخارج، والخيانات التى طعنتها من الداخل. الدول الأخرى تلك التى تطمع فى ثرواتها وخيراتها، وتلك التى تخشى على نفسها إن قامت، تسعى لتمزيقها وإخضاعها. ولا يعدم هؤلاء الأعداء عونا لهم من ضعاف النفوس بين صفوف الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة ممن باعوا روحهم أو ممن ينتمون لهذه الأمة بالاسم فقط لكنهم غير مندمجين فيها، لاختلاف دينهم أو عرقهم أو ثقافتهم عن أغلبية الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة.

طيب والحل؟ كيف تستعيد الأمة الواحدة مجدها الضائع وتؤدى رسالتها الخالدة؟ من خلال توحيد الصفوف ونبذ الخلافات فى الأفكار والرؤى: لا للجدل والنقد والمعارضة الهدامة، والحذر كل الحذر من الأقليات والمثقفين وكل هواة الشقاق والخلاف. لابد من الاصطفاف خلف مشروع قومى واحد ينتشل الأمة الواحدة من ضياعها. ثم لابد من نظام حديدى لا يُسمح لأحد بالحيد عنه كى ينفذ هذا المشروع. لا مجال للتخاذل أو التلكؤ أو الفوضى مادام الفكر واحدا والهدف واحدا، بل يجب أن يلتزم كلٌّ بدوره المرسوم كى تستعيد الأمة مجدها.

ولا يمكن أن يتم كل هذا دون الالتفاف حول قائد يجسد آمال هذه الأمة الواحدة ويأخذها نحو تحقيق رسالتها الخالدة. هذا القائد هو حبيب الملايين يشعر بنبضهم ويأتى من بينهم. يحظى بثقتهم المطلقة، ولا يعارضه أحد إلا أعداء الشعب والخونة. هو الذى يرى الصورة الشاملة، ويعرف المصلحة كاملة، يوازن بين المقتضيات ويأخذ القرارات التى تضمن للأمة وحدتها وتحقيق رسالتها الخالدة. هو الممسك بالبوصلة فى الطريق الصعب، وهو الذى يضمن انخراط الجميع كالتروس فى الساعة، هو الأمل.

وكى تنجح الأمة الواحدة فى تحقيق رسالتها الخالدة، على الجميع التضحية بالذات، وبالغير أحيانا. لا تسأل ماذا أعطتك روسيا بل اسأل ماذا أعطيتها. ونموت نموت وتحيا إيطاليا، أو ألمانيا، أو اليابان، فاليابان أمنا. وإن اضطررنا للتضحية بجيل كامل، مثلما اضطر ستالين وضحى بخمسة ملايين روسى فى وقت السلم و20 مليونا فى وقت الحرب، فهل يهم ذلك فى سبيل إعادة مجد روسيا الأم؟

لكن إعادة بناء الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة لا تكتمل دون مواجهة المؤامرات الدولية، فالقوى الأجنبية لن تسمح لك بالنهوض أبدا، ومن ثم عليك بناء قوتك أولاً، ثم مواجهتها مثلما فعلت كل الأمم الواحدة ذات الرسالات الخالدة: اليابان وألمانيا وإيطاليا وروسيا. وهكذا تنتهى المشروعات القومية كلها بالحرب. وهكذا، إن نجحت هذه المشروعات القومية فى بناء قاعدة اقتصادية قوية فإنها تنتهى بحرب ضروس تدمر البلد بالقاعدة التى بناها وببقية أهله.

لكن لِمَ أقول إن هذه الفكرة تتدهور فى مصر؟

نشر في المصري اليوم في ١ مارس ٢٠١٤