بناء الكتلة الديمقراطية

إن كان أساس مشكلة التنظيم هو تفتت المجتمع إلى ذرات، كل منها يدور فى فلكه الخاص، فإن النجاح فى تنظيم الكتلة الديمقراطية يتطلب تجميع هذه الذرات معاً فى كيانات متشابكة. كيف؟ بكل الأشكال الممكنة للتنظيم: من المشاركة فى الأحزاب والنقابات إلى الجمعيات التنموية ومختلف أشكال المبادرات المحلية، وصولا إلى نوادى القراءة والسينما. كل هذه أشكال تنظيمية مفيدة طالما ضمت الناس فى عمل جماعى مستمر ومنظم. إن قرر ثلاثة أفراد التعاون فيما بينهم لحل مشكلة ما بالحى الذى يسكنونه- ماسورة مكسورة، مدرسة متهدمة، نظافة، أى شىء- فإن هذا التعاون يشكل نوعا من التنظيم. إن قررت مجموعة أطباء أو مدرسين أو مهنيين التعاون فيما بينهم لمساعدة الغير أو حل مشاكلهم، فإن هذا يندرج فى بند تنظيم الناس. ليس من الضرورى أن تكون التنظيمات سياسية أو حقوقية، ولا أن تكون مؤسسات لها ميزانيات ومقار وموظفون واسم طنان وشعار. التنظيم فى جوهره هو هذا: عمل جماعى مستمر.

هذا هو المستوى الأول من التنظيم. وغايته ألا يظل أحد منا دون رابط، حتى لو كان نادى قراءة من ثلاثة أفراد يتبادلون الكتب ويناقشونها بانتظام. وما فائدته؟ يربط الناس ببعضهم، يعلمهم العمل الجماعى مع الاختلاف فى الرؤى، ويدربهم على التعامل مع مشاكل المجتمع، ويعرفهم على بعضهم وعلى قدراتهم الحقيقية ومواطن قوتهم وضعفهم: من يستطيع تحمل المسؤولية ومن لا يعتمد عليه، من يبرع فى هذه المهام ومن يحسن فى تلك… إلخ.

المستوى الثانى هو ذلك الذى يشبك هذه الكتل الصغيرة فى حزم كبيرة. كتلة صغيرة تطلق حملة لتحسين التغذية فى المدارس، فتنضم لها عشرات الكتل الصغيرة التى تعمل فى مجالات متصلة بالموضوع. مجموعة المدرسين تطلق حملة لتحسين تعليم اللغة العربية، فتنضم لها عشرات الكتل الصغيرة التى تعمل فى مجالات ذات صلة. لو أكملت القائمة ستجد فى النهاية أن كل شخص سيجد نفسه مشاركا فى حملة ما، على الأقل.

كيف ستندرج هذه الحملات كلها فى منظومة واحدة؟ شيئا فشيئا ومن خلال العمل الجماعى نفسه ستتقاطع هذه الحملات مع بعضها حتى يتشابك الجميع فى أعمال منظمة متوازية ومتداخلة. لا يعارض أحد غيره ولا يصطدم به. كل واحد يعمل ما يريد، وفى النهاية تسهم هذه الأعمال فى بناء شبكة من العمل المنظم. وما حدث على مستوى الكتلة الصغيرة من تدريب وفرز للناس والقدرات، يحدث على المستوى القومى، ومعه فرز للقيادات من بين الناس لا من فوقها. قيادات حقيقية قادرة على تحريك هذه الكتل، لأنهم يعرفونها وهم من أفرزوها. كل هذا دون انخراط فى عمل سياسى بالمعنى الضيق، أو صدام مع السلطات يلقى بها فى السجون. فمن الذى سيمنع الناس من القراءة أو التعليم أو التطبيب؟

بناء الكتلة الديمقراطية لن يبدأ إذاً بإنشاء تنظيم موحد يجمع أنصار حلم الثورة تحت راية واحدة ويزيل الخلافات بينهم. لن يحدث هذا مهما حاولنا. فالخلاف فى الرؤى جزء أساسى من الحياة السياسية ومن الفكرة الديمقراطية نفسها. فليس هناك طريق واحد للوصول للهدف، أى هدف، ولا أسلوب واحد لمعالجة المشاكل، أى مشاكل. كما أننا نمر بمرحلة غير عادية، انفجرت فيها الآراء والأفكار، وسنأخذ وقتا حتى نستقر على رؤى للقضايا الرئيسية. ومن ثم، علينا أن نجد طريقة لتجميع ذراتنا دون صدام بيننا حتى تتلاقى رؤانا مع الوقت والنقاش والعمل الجماعى.

كل ما عليك إذاً هو الانخراط فى كتلة ما، اخترها كما تريد. لا يحتاج الأمر لاستشارات ولا قيادات ولا لقاءات: انخرط وأنجز. تريد بدلا من ذلك العمل فى حزب؟ عليك به. تريد الاشتباك مع الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية؟ اشتبك، لكن تذكر أن هذه مجرد محطات فى طريق طويل سيأخذ سنوات، ومحركه الحقيقى هو التنظيم.

ألا يقول الاستبداديون عنا إننا فقاعة؟ نخبة مترفة بلا قاعدة شعبية، غير متصلة بمشاكل الجماهير، بلا قدرة على التنظيم، ولا تعرف غير المظاهرات والحديث فى الفضائيات، وتريد الاستيلاء على الحكم؟ طيب ياسيدى. دعنا نترك لهم الحكم: هم عمود الخيمة، هم من سينقذون البلد من الخراب الذى دفعناه إليه. إحنا آسفين ياريس: اتفضل احكم وربنا معك. دعنا نحن، أنصار حلم الثورة، نملأ فقاعتنا الديمقراطية بجذور وفروع وأشجار تتشابك وتشتد وتقوى شيئا فشيئا، دون انقسام حول أفضل شجرة يجب غرسها، اغرس أى شجرة تريد، ودون صدام لا داع له مع غيرنا. ستنمو هذه الجذور والفروع والشجر وتشتد، وشهرا بعد شهر ستملأ الفقاعة وتحولها لكتلة صلبة لا يمكن تحطيمها. ساعتها لن يقف فى وجه الديمقراطية شىء. ساعتها ستحقق أحلام الثورة. ساعتها سيأتى وقت ممارسة السياسة المباشرة والحكم.

نشر في المصري اليوم في ٢٢ فبراير ٢٠١٤