العدالة الاجتماعية

تحقيق العدالة الاجتماعية يكاد يكون أهم الأهداف التى ينشدها المجتمع من تدخل الدولة فى الاقتصاد. لكن مفهوم الناس للعدالة الاجتماعية متفاوت، يضيق ويتسع فيشمل أشياء ويغفل أشياء حسب مزاجهم. يقول الناس إنهم يريدون عدالة اجتماعية، أنصار الثورة وأعداؤها، وماذا سيقولون غير ذلك؟ لا أحد يدعو للظلم الاجتماعى طبعا، على الأقل ليس قولا. لكن ما إن تنتقل من القول للسياسات الاقتصادية والمالية- ما يجب أن تفعله الحكومة بدورها الاقتصادى- حتى يتبخر الإجماع اللفظى حول العدالة الاجتماعية. فماذا نقصد بالضبط- نحن معسكر التغيير فى مصر- حين نطالب بجعل العدالة الاجتماعية أحد الأهداف الرئيسية لدولتنا الجديدة (حين يحين أوانها وترى النور)؟

دعنا بداية نستبعد الخيال الشعبى المرتبط بالعدالة الاجتماعية. لا تعنى العدالة الاجتماعية توفير السكن والمواصلات والتعليم وبقية الخدمات لجميع المواطنين بأسعار فى متناول أيديهم، فهذا أمر آخر، يرتبط بمستوى الرفاهية الذى يمكن للدولة توفيره لمواطنيها. ولا تعنى العدالة الاجتماعية توفير العمل للجميع، فهذا أمر يرتبط بنوع الاقتصاد السائد ومدى قدرته على إدماج الناس فيه. ولا تعنى العدالة الاجتماعية محاربة الأغنياء ولا تجريدهم من أموالهم باعتبارهم لا يحتاجونها، أو مشكوكا فى ذمتهم، أو مجبرين على دفع إتاوة لسلطات الدولة، فهذه بلطجة مماليك لا عدالة اجتماعية.

بل لا تعنى العدالة الاجتماعية أن نأخذ من الغنى ونعطى الفقير، فهذا الأمر أقرب للتضامن الاجتماعى، وهو واجب إنسانى يتعين على الدولة تشجيعه، لكن عادة تضطلع به أساساً مؤسسات المجتمع، المدنية منها والدينية، المنخرطة فى أعمال الخير والتكافل الاجتماعى.

ما تعنيه العدالة الاجتماعية- فى زعمى- هو أمران رئيسيان ومحددان: الأول هو مكافحة توريث الأوضاع غير المتكافئة الموجودة فى المجتمع، بحيث لا يصبح توريث الفقر والجهل والتهميش أمراً حتمياً أو شبه حتمى. وهذا ما يُعرف عادة بضمان تكافؤ الفرص، أى ضمان حصول كل مواطن على فرصة متكافئة للتعلم والنمو والترقى. لكن تكافؤ الفرص عادة ما يكون شكلياً، فأبناء الموسرين وأصحاب النفوذ لديهم فرصة أكبر- فى كل المجتمعات- لتلقى تعليم أفضل من أبناء الفقراء والمحرومين والضعفاء. هؤلاء يتلقون دوماً تعليماً أقل جودة، ويمرون بظروف أسرية ومعيشية أصعب، وغالبا ينتهى بهم الأمر فى أدنى السلم الاقتصادى والاجتماعى. بمعنى آخر، الفقر يورث مثلما الغنى والنفوذ، ليس من خلال المواريث الشرعية فحسب، بل أساساً من خلال الظروف المحيطة التى تخدم الموسرين والأقوياء وتحول بين الفقراء والخروج من فقرهم. هذا التوريث للظروف الاجتماعية ظلمٌ بيّن، وكلما ارتفع معدله فى المجتمعات وصمناها بأنها ظالمة. السعى لتحقيق العدالة الاجتماعية يعنى أولاً متابعة الدولة لمعدلات توريث الظروف الاجتماعية واتخاذها إجراءات فعالة لكسر وحصار توريث الاختلال فى هذه الظروف بين المجموعات الاجتماعية المختلفة.

الجانب الثانى- والأعمق- للعدالة الاجتماعية هو مكافحة الدولة ميل السوق لخدمة أفراد أو مجموعات بعينها وإعطائها ميزات لا تتوفر للآخرين، ولظلم أفراد أو مجموعات بعينها وتحميلها أعباء لا تُفرض على الآخرين. ما الذى يحدد هيكل الأجور فى مجتمع ما؟ وإلى أى حد يتسم هذا الهيكل بالعدالة؟ لماذا يحصل عامل المطعم الفاخر على راتب شهرى يعادل قيمة عشاء لأربعة أشخاص فى نفس المطعم الذى يعمل به؟ هل تتوزع الضرائب بشكل عادل على فئات المجتمع، أم أن نظام الضرائب يظلم فئات بعينها، عادة الأضعف والأفقر؟ هل توزيع أرباح النمو الاقتصادى بين رأس المال والعمل أميل للعدالة أم للظلم، وبأى درجة؟ هل فرص الاستثمار متاحة للجميع أم للأغنياء فقط؟ هل يستطيع الشاب البسيط الذى يبدأ حياته أن يبدأ عملا خاصا أم تدفعه السوق والدولة إلى إشعال النار فى نفسه مثل بوعزيزى؟

مكافحة توريث الظلم الاجتماعى، والعمل على تقليص هذا الظلم وكسره هو جوهر دور الدولة فى تحقيق العدالة الاجتماعية. وتركيز الدولة على هذين الهدفين من شأنه تنقية تدخلها فى السوق وتعظيم أثر هذا التدخل، والبعد عن الإجراءات الفارغة التى تدغدغ مشاعر الناس دون أن تعالج جوهر الظلم الاجتماعى. السعى لتحقيق جانبى العدالة الاجتماعية- مكافحة توريث الظلم الاجتماعى، والعمل على تقليص هذا الظلم وكسره- لا يتعارض مع تشجيع الاستثمار ودفع النمو الاقتصادى، طالما اختارت الدولة التأثير فى آليات السوق نفسها، باستخدام منطق السوق نفسه (أى التأثير على شروط العرض والطلب والمنافسة) لا من خلال الإجراءات القسرية والبيروقراطية، كالتسعير الوهمى للمنتجات والخدمات، من الغذاء للأنبوبة للمواصلات للصحة. كيف تنتقل الدولة من هذا الطريق إلى ذاك؟ هذا موضوع آخر.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ١٨ يناير ٢٠١٤