السيرك القومي

أهلا بكم فى السيرك. وليته سيرك مسل للكبار أو مبهج للصغار، لكنه سيرك قطاع عام. بهلواناته وحيواناته وحواته موظفون مترهلو الأجساد والروح، يؤدون فقراتهم دون حماس، لا يبتغون منها إلا الحصول على مكافأة العرض الهزيلة. عرض سقيم، بلا روح، نعرف فقراته عن ظهر قلب: السلام الوطنى، الساحر (العجوز) والسيدة (البدينة)، ثم نجم الحفل: فقرة الأسد (الهزيل)، يتبعه البهلوان (الحزين)، ثم بعض الحيوانات البائسة، ومن فرط الملل يبدو العرض وكأنه بلا نهاية.

والجمهور؟ لا شىء، يظل جالسا يشاهد العرض رغم ضجره الواضح. بعضه يحاول الاستمتاع، بعضه ينام، وبعضه يقنع نفسه بأن هذا العرض أفضل من القعود بالبيت وأفضل ما يمكن للظروف توفيره له ولأبنائه، وبعضه الآخر يفرك ولا يستقر فى مقعده من الضجر، وبعضه يلعن ويسب السيرك بمن فيه، لكن لا أحد يغادر العرض. لماذا؟ لأن الجمهور أيضاً قطاع عام: محدود الدخل والخيال، دفع ثمن تذكرة الدخول ورتب أموره على قضاء السهرة هنا، ولا يريد مغادرة السيرك لأنه لا يعرف ماذا يفعل إن خرج، وأين يذهب فى الليالى التالية؟ أيعود لمشاهدة نفس العرض؟ أم يذهب لمشاهدة عرض آخر لفرقة أخرى أتعس وأضل سبيلا؟

مشهد مثير للشفقة، لكنه ليس غريباً أو مفاجئاً- على الأقل ليس لأصحاب العقل. فبهلوانات السيرك وجمهوره يشكلان معاً وحدة متكاملة. جاءوا معاً وسيرحلون معاً. البهلوانات يقفزون هنا فى الأمسيات، وبقية الجمهور تقفز فى أماكن أخرى فى الصباحات. لا هؤلاء ينجحون فى إبهار جمهورهم هنا، ولا الآخرون يبهرون الأولين فى أماكنهم هناك. يحيا الجميع بلا انبهار، مرتاحين لهذا الملل الذى يعرفونه ويعرفهم، يكرهونه ويرتاحون إليه. ومن ثم فهم حين يثورون ضده، وهو أمر جد نادر، فإنهم يثورون بطريقتهم المملة ذاتها، وينتهى بهم الأمر حيث ابتدأوا.

ليس فى هذا البؤس شىء غريب أو مفاجئ، فموظفو السيرك وجمهوره تخطوا السن التى تسمح لهم برؤية غير ما اعتادوه، وجمدت أرواحهم، ورتبوا حياتهم على ما اعتادوه ولم يعودوا يعرفون غيره. لكن الغريب والمفاجئ هو استسلام الأجيال الأصغر لهذا العرض الممل. هؤلاء الجالسون فى المقاعد الخلفية، يهزون السيرك احتجاجا على سوء العرض، وتعلو أصواتهم بالشكوى من فقراته التى تفقع المرارة، لكنهم أيضاً لا يغادرون العرض. بعضهم يشتم البهلوانات الفاشلين، بعضهم يشتم الجمهور المبتسم فى بلاهة، وبعضهم يحطم المقاعد الخلفية أو يتشاجر مع موظفى البوفيه وشباك التذاكر، لكن لا أحد منهم يغادر.

لماذا؟ مزيج من عمى الغضب، ومن الخوف والكسل. ينتفض الآن القارئ الثورى الذى فقد عزيزا أو أصيب خلال السنوات الثلاث الماضية، ويصب جام غضبه على العبد الفقير: كيف أجرؤ، أنا الذى لم أقف أمام جحافل الأمن على كوبرى قصر النيل، أن أصف هؤلاء الذين خاطروا بحياتهم بالخوف والكسل؟ وأقول اهدأ: فأنت لا تحتاج مزيدا من الغضب. رحم الله الجميع. لكن المخاطرة بالحياة ليست أكبر اختبارات الشجاعة أو المثابرة. وخبرة العاملين على الأرض تقول إن تنظيم الناس أصعب عشرات المرات من حشدهم فى مظاهرة، وأن تجنيد الانتحاريين أسهل من إعادة تأهيلهم.

سؤال ما بعد الغضب هو: هل تريد الأجيال الجديدة الخروج من عرض السيرك البائس هذا أم يريدون الجلوس فى الصفوف الخلفية وقذف البهلوانات والجمهور بالشتائم والطوب؟ هل يريدون تكسير المقاعد احتجاجا على سوء حظهم الذى قذف بهم فى عرض ضائع كهذا، أم يريدون ترتيب طريقهم بعيدا عنه؟ وهل هم مستعدون للبحث عن وسيلة تقلهم من هنا إلى هناك، أم يفضلون التركيز على الشكوى من بؤس السيرك؟

هل يريدون الانتقام من هؤلاء العواجيز الذين أفسدوا السيرك، بهلوانات وجمهور، أم يريدون تركهم فى مأساتهم وإقامة عرض آخر بدلا منه؟ وهل يعرفون ملامح العرض البديل الذى يرضيهم، أم يكتفون بالمطالبة بعرض مسل ومفيد ولطيف؟ وهل يسمعون إن حاول أحد منهم رسم ملامح هذا العرض البديل أم ينصرفون عن هذه المحاولات باعتبارها عبثا وخيالا وترفا لا لزوم له وسط هذا العرض البائس الذى نعيشه؟

التاريخ لا يحدث وحده، بل يصنعه الناس. والأشياء الطيبة بالذات لا تحدث وحدها، بل يكافح من أجلها الناس. ولن ينتهى هذا السيرك العقيم إن انخرطت الأجيال الجديدة فى عقمه، واكتفت بالغضب والشكوى مثل الأجيال التى سبقتها. إنما أهلك الأجيال التى من قبلكم غياب الرؤية الواضحة والحركة المنظمة، فإما نبلور رؤية واضحة، وننظم حركتنا بعقل وحكمة، أو ننضم لمن سبقنا ونواصل الفرجة على السيرك، شاتمين أو مبتسمين أو نائمين.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ١١ يناير ٢٠١٤