نحو اقتصاد انساني

من ضمن الأوهام الليبرالية المستقرة وهم اقتصاد «السوق الحرة»، التى تعمل وفق آليات عرض وطلب لا تحتاج تدخلا من الدولة وتحقق أفضل النتائج للمجتمع: توجه كل منتج إلى النشاط الذى يستطيع التنافس فيه، تحقق علاقة متوازنة بين العمال وأصحاب الأعمال، توفر أفضل السلع والخدمات للمستهلكين بأرخص الأسعار، وتؤدى لحسن استخدام الموارد الطبيعية والبشرية وتحسين قدرة الاقتصاد القومى على المنافسة دولياً. هذا هو «عالم سمسم» الاقتصادى.

تاريخيا، تحولت اقتصاديات العالم كله إلى اقتصاد السوق وانتهى الأمر. تلاشت أو كادت أشكال الحياة الاقتصادية الأخرى، وأفسحت الطريق لسيادة السوق. ارتبط هذا بالتحول للرأسمالية، لكن توسع السوق وسيطرتها استمر أيضا مع النظم شبه الرأسمالية والتابعة، وحتى مع النظم المسماة الشيوعية. وزادت العولمة اقتصاد السوق ترسخا وشراسة. واليوم، صار اقتصاد السوق هو النظام الاقتصادى السائد فى العالم كله، من الولايات المتحدة حتى كوريا الشمالية.

لكن التاريخ الاقتصادى يوضح بجلاء أن «السوق الحرة» لا علاقة لها بالحرية سوى اسمها، فلم يتحول أى اقتصاد إلى نظام السوق إلا بتدخل مباشر من الدولة مكّن السوق من الترسخ والتوسع حتى استوعبت جميع الأشكال الأخرى للحياة الاقتصادية. قوانين العمل، أنواع الضرائب، أشكال الرقابة المتنوعة على الإنتاج، والتصاريح، والسياسة الجمركية والنقدية والمصرفية، وحتى المعايير والمقاييس السائدة، كل هذا من صنع الدولة، وكل هذا يؤثر مباشرة على حياة السوق واستمرارها. ولذا احتاج المسيطرون على السوق دوما للسيطرة على الدولة: كى يضمنوا «حرية السوق»، أى حريتهم فى فرض التشريعات والنظم المناسبة لهم.

الذى يدفع ثمن «حرية» السوق هو أغلبية المواطنين، هؤلاء الذين تخضع حياتهم لقسوة وعمى آلياتها عن المعاناة الإنسانية التى تتسبب فيها هى وتقلباتها المدمرة المتكررة

الذى يدفع ثمن «حرية» السوق هو أغلبية المواطنين، هؤلاء الذين تخضع حياتهم لقسوة وعمى آلياتها عن المعاناة الإنسانية التى تتسبب فيها هى وتقلباتها المدمرة المتكررة. وأين تذهب أغلبية المواطنين حين تطحنها هذه السوق «الحرة»؟ تذهب إلى الدولة، شاكية باكية أو ثائرة مدمرة. وفى كل مرة ينتهى الأمر بمأساة: إما قمعاً شديداً للأغلبية من أجل حماية «حرية» أصحاب السوق، أو استيلاء الأغلبية على الدولة وتحويلها لفاشية أو ديكتاتورية تحل فيها الدولة محل السوق فتطعم الناس وتكسوهم مقابل استغنائهم عن حرياتهم وعن جزء من إنسانيتهم.

سيطرة السوق على الدولة تدمرها وتدمر المجتمع، وسيطرة الدولة على السوق تدمر الاقتصاد والمجتمع. الحالتان تنتهيان بالدمار بدرجة أو بأخرى. فلا يمكن لمجتمع الاستمرار فى الحياة بشكل إنسانى ما لم يستعد زمام القيادة من قوى السوق.

لكن كيف نحكم السوق بحيث نحمى إنسانية المجتمع دون أن ندمر السوق نفسها فنصيب المجتمع بضرر أكبر؟ هذا هو السؤال الحقيقى الذى تواجهه المجتمعات اليوم. والإجابة بسيطة، لكنها تتطلب تمييزا دقيقا: السبيل الوحيد الذى يمكن من خلاله قيادة السوق دون تدميرها هو من خلال التأثير على آليات السوق نفسها، لا من خلال اعتراض هذه الآليات أو محاولة تعطيلها.

على سبيل المثال، وضع تسعيرة جبرية للخضروات يتعارض وآليات السوق، ومن ثم لا يمكنها أن تحقق الهدف الاجتماعى المنشود، وهو ما جعل الخضروات فى متناول يد الجميع. لأن الذى سيحدث هو تحايل من التجار وقيام سوق بديلة وإنفاق مزيد من المال العام على جيش من موظفى الحكومة الذين يطاردون هؤلاء التجار (أو يقتسمون معهم الرزق)، وإن أفلحت الدولة فى فرض تسعيرة قسرية فقد ينصرف الفلاحون عن زراعة الخضروات بما يزيد من حدة الأزمة. كذلك فإن قيام الدولة بالاستيلاء على السوق- من خلال احتكار إنتاج الخضروات وتوزيعها- يؤدى لنتيجة أسوأ من تلك التى كانت الدولة تعالجها (وهى غالبا اختفاء الخضروات أو ندرتها وارتفاع تكلفة إنتاجها، ومن ثم الحاجة لدعم أسعارها مباشرة من الموازنة). على عكس هاتين الطريقتين الفاشلتين، فإن قيادة السوق من خلال آلياتها تعنى اتخاذ إجراءات تستهدف توجيه هذه الآليات نحو الوفاء بالهدف، وهو إتاحة الخضروات للجميع، وذلك ابتداء بإجراءات منع احتكار إنتاج أو توزيع الخضروات، مرورا بتشجيع رفع حجم الإنتاج من خلال حوافز ضريبية وائتمانية ومعونة فنية، وانتهاء بتشجيع المواطنين على زراعتها فوق أسطح بيوتهم من خلال وحدات إنتاج عملية، مثلما حدث فعلاً فى عدد من المدن الكبرى فى الولايات المتحدة.

مثال إتاحة الخضروات ينطبق على بقية مناحى الاقتصاد، من توفير الخبز إلى الخدمات التعليمية إلى الصحة والمواصلات. فى كل هذه الأحوال، المطلوب تحديد الأهداف التى نريد حمايتها كى نحافظ على إنسانية مجتمعنا، ثم قيادة السوق وتوجيه آلياتها من خلال سياسات الدولة وتشريعاتها، بحيث تتجه السوق فى الاتجاه الذى يريده المجتمع. هذا يعنى أن الهدف يجب أن يكون قيادة السوق وتوجيهها، لا هدمها، ولا استيلاء الدولة عليها، ولا استبدالها بنظم خيالية ثبت فشلها الذريع.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ٤ يناير ٢٠١٤