الحلم سيتحقق

هل انكسرت الثورة ومات حلم الدولة الجديدة الذى ولد فى يناير ٢٠١١؟ إجابتى القصيرة أن الثورة لم تنكسر بل تتداعى موجاتها، بعضها بهدوء من تحت السطح وبعضها فى صخب ومواجهات، وأن الحلم لم يمت بل على العكس ينمو وسيتحقق ويسود. المسألة مسألة وقت وتكلفة، لا أكثر ولا أقل. لكن الحلم سيتحقق وسيكنس كل القديم، كله. وسيتغير وجه مصر دولة ومجتمعاً. وسيضحك أبناء وبنات المجتمع الجديد علينا وعلى سنوات التيه التى نعيشها، وسيسألون فى تعجب: كيف تخبطنا كل هذا التخبط، وكيف لم نر الطريق وهو واضح كالشمس؟! سيحاول من يبقى منا حياً شرح الظروف التى منعتنا من رؤية الطريق لكنهم لن يتفهموا أو يغفروا، تماماً مثلما يسأل الشباب الآن: كيف عشنا ثلاثين عاماً فى استبداد مبارك ولم نثر عليه وكيف قبلنا وكيف خضعنا؟! لا أحد يتفهم الظروف المحيطة بالجيل الذى سبقه. لكن ما علينا، خلينا فى موضوعنا.

من أين آتى بهذه الثقة؟ من تشخيصى لأصل المشكلة التى تعتصرنا ولما حدث فى مصر خلال السنوات الأخيرة. فى رأيى، لم يكن يناير ٢٠١١ ثورة برتقالية حالمة خطط لها الشباب الطاهر، أو «إيفنت» تمت الدعوة له على فيس بوك، وإنما كان انفجاراً فى قلب دولة بالية- حكماً واقتصاداً وثقافة ومؤسسات. هذه الدولة البالية ليست نتاج الثلاثين عاماً من حكم مبارك فحسب، بل تمتد لأبعد من ذلك بكثير. فعبر عشرات السنين والدولة تجرجر تشوهاتها وفشلها- من ظلم اجتماعى فادح فى ظل ملكية تابع، إلى هزائم عسكرية فى ١٩٤٨ و١٩٥٦ و١٩٦٧، حتى تفشى الفشل الكلوى وفيروس سى والتطرف الدينى. عاماً بعد عام وفشل الدولة وتشوهاتها تتفاقم ونحن نتغافل عنها حتى تخلينا تقريباً تماماً عن مواجهتها واستسلمنا لما قررنا أنه قدرنا. وبدلاً من المواجهة الشجاعة لأصل المشكلة، اكتفينا بمحاولة «الستر»: أى إدارة تبعات الفشل والتظاهر بالنجاح، متهمين من يشير للفشل بأنه «يشوه صورة مصر».

فى الوقت نفسه كان المجتمع يتغير، وبعمق، وبعيداً عن أطر الدولة ومؤسساتها. ومن الاقتصاد للسياسة للثقافة للتعليم للصحة للعمل، تحجرت الأطر الرسمية وتحولت لأشكال يتم استيفاؤها أو التحايل عليها أو تجاهلها أو استغلالها، حسب الحاجة والاستطاعة، فى حين تتم التفاعلات المهمة فى حياة المجتمع وفقاً لأطر غير رسمية. أخذت مؤسسات وأطر الدولة تفقد أهميتها وتصغر وتضعف أواصرها وقدرتها على الحركة وعلى الإدارة وعلى العلاج وعلى التعاطى مع المشكلات. وظل المجتمع ينمو خارجها، غالباً بشكل عشوائى ومشوه، لكنه فى كل الأحوال ينمو ويكبر حجمه وتتغير مواصفاته دون صلة فعالة بمؤسسات الدولة المتيبسة. وفى حين ارتبط نمو المجتمع (اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وفكرياً) بالتغيرات العالمية وأصبح جزءاً منه بشكل أو بآخر، ظلت مؤسسات الدولة حبيسة إطارها القومى تدفن مؤسساتها العاجزة رأسها فى الرمال كيلا ترى التغيرات التى تجتاح مجتمعها والعالم.

بدأ التفكك الأخير فى رأيى عام ٢٠٠٠. من ناحية وضعت الانتفاضة الفلسطينية الدولة فى مأزق صارت معه عاجزة عن التعامل مع التزاماتها المتعارضة ومع التناقضات التى راكمتها عبر عقود، داخلياً وخارجياً. ومن ناحية أخرى زادت الضغوط الخارجية مع وصول المحافظين الجدد للحكم فى أمريكا وهجوم الحادى عشر من سبتمبر، حيث أصبحت النظرية الحاكمة ترى أن حماية المصالح الأمريكية تتطلب استبدال النظم القمعية الصديقة بنظم منتخبة ديمقراطياً (ينتظر أن تصبح صديقة). هذه التطورات، مع استمرار نمو قوى المجتمع خارج أطر الدولة الفاشلة، مع مشروع التوريث المذهل فى سخافته واستفزازه، قادت للغليان الذى شهدناه منذ ٢٠٠٥. وحين لبى الشباب دعوة وائل غنيم وعبدالرحمن منصور وغيرهما إلى «إيفنت» فى ميدان عند سفح الجبل، فوجئوا بأن الجبل ينهار وأن أهله كلهم يهبطون إلى الميدان.

أخيراً أخذت الدولة البالية تنهار، على دفعات ومراحل، وهى مستمرة فى الانهيار. وكل ما جرى منذ يناير ٢٠١١ محاولات بائسة لترميم جبل متصدع. ليس الموضوع «نظام مبارك» ولا دولته، فلا شىء اسمه دولة مبارك. الموضوع هو انهيار الدولة البالية التى فشلت الأجيال السابقة فى تطويرها وتحريرها من ربقة تشوهات الماضى (الاستعمارية وشبه الليبرالية وشبه العسكرية). كل هذا ينهار. ولم يكن حكم الإخوان عبثياً للأسباب التى أوردها باسم يوسف فحسب، بل لأن الإخوان أنفسهم جزء من التشوهات التى انفجرت الثورة بسببها، ولأنهم ظنوا أن الاستيلاء على قمة الجبل المنهار والجلوس عليه يكفى كى تسير الأمور كما يشتهون. جلسوا على قمة الجبل، وانهاروا معه. وهذا هو مصير من سيأتى بعدهم، حتى نبدأ فى بناء دولة جديدة تماماً.

لكن فى كل الأحوال، وبغض النظر عن الوقت والمعاناة، فإن الحلم، حلم الدولة الجديدة، سيتحقق لا محالة، لأن الجبل المتصدع فى طريقه للزوال.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ٢٤ نوفمبر ٢٠١٣