حسن النية

فائدة أى مقال أو كتاب يحددها القارئ. فهو ليس مجرد متلقٍ للكلمات المكتوبة، وإنما يشكل هذه الكلمات ويعطيها معناها من خلال «المنظار» الذى يستخدمه أثناء القراءة. قد يكون منظاره ضيقا أو واسعا، سليما أو مشوها، لكنه هو الذى يحدد ما يمر وما لا يمر من الكلمات إلى ذهنه، ويضع علامات على هذه الكلمات تحدد مصيرها. قد يرفض بعضها، من حيث المبدأ، لشىء فيها أثار حساسيته، وقد يعيد صياغة بعضها على نحو يخالف سياقها، وقد يقبل بعضها دون فحص أو مراجعة، وما بين ذلك من احتمالات.

يقول خبراء علم النفس إن حواس الإنسان تتلقى كمية من المعلومات تتجاوز بأربع مرات قدرتنا على الإدراك. ماذا نفعل بالثلاثة أرباع الباقية؟ نخزنها أو نهملها دون أن «ننظر» إليها. وكيف يختار العقل الربع الذى يركز عليه، الذى ينظر إليه؟ من خلال مرشحات (يعنى فلاتر) سابقة التجهيز فى المخ، تطورت مع نمو الشخص. هذه المرشحات هى بيت القصيد، فهى تعكس شخصية المرء وأولوياته وقدرته على الفهم، ومزاجه ومدى انفتاحه أو انغلاقه، واستعداده للتفاؤل أو التشاؤم إلى آخره- أى كل أفكار الشخص المسبقة وسماته. باختصار، نحن «ننظر» إلى المعلومات التى نتوقعها، والتى تتفق وما نعتقده بالفعل، ونهمل تلك التى تعارضها. وماذا نفعل مع المعلومات أو الأفكار التى تعارض ميولنا أو معتقداتنا إن ألحت على «نظرتنا» ولم يعد بوسعنا تجاهلها؟ نرفضها، نشكك فى صحتها، أو نسخر منها، أو نعيد تفسيرها بحيث تتفق مع ميولنا ومعتقداتنا.

والنتيجة؟ إن «اللى ذاكر ذاكر من أول السنة»، أو كما يقول جلال الدين الرومى: «لا يشترى عذب الحديث غير الأذن الواعية». لكن ماذا عن الأذن غير الواعية، والأذن المخالفة فى الرأى، والأذن المتشككة فى النية؟ كيف يتواصل المختلفون فى الرأى؟ كيف يتواصل الناس وهم لا يثقون فى صدق نوايا بعضهم بعضاً؟ لو انتظر الكاتب أن يثق به المخالفون لرأيه لما كتب شيئاً. ولو كتب فقط لهؤلاء الذين يؤمنون بما يقول لما كانت لكتابته قيمة تذكر. هل حكمت الأقدار علينا أن يظل كل معسكر حبيس أفكاره ومعتقداته القديمة؟ وما فائدة الكلمة، والفكرة، والحكمة إن لم تستطع العبور من معسكر لآخر؟

هناك حل. وهو الاتفاق على بعض قواعد «حسن النية» المؤقتة، نطبقها فقط أثناء قراءتنا ومناقشتنا الفكرة، دون إخلال بحق القارئ فى أن يسىء الظن بالكاتب ونواياه خارج نطاق هذه الفكرة.

وأول أمثلة قواعد «حسن النية» المؤقتة أن يتخلى القارئ عن محاولة تصنيف الكاتب. فكثير من القراء يمر على المقال سريعا ليعرف إن كان الكاتب يتفق مع توجهه العام أم يختلف معه، وبناء على ذلك يحدد موقفه من الأفكار المطروحة، بدلا من ذلك أقترح على القارئ أن يتصرف بشكل «انتهازى»: بعض الأفكار التى يطرحها المختلفون معنا قد تكون مفيدة، تضىء لنا جوانب لا نراها، حتى وإن استمررنا فى الاختلاف مع توجه الكاتب الذى يطرحها.

ثانية هذه القواعد هى إهمال أمر الكاتب. فالثقة أو الشك فى أغراض الكاتب يؤذيان قدرة القارئ على تقييم ما يطرحه من أفكار. أسباب الشك والثقة كثيرة: قد يعتقد القارئ أن الكاتب مخلص أو متلون، زاهد أو متسلق، فاشى محب للبيادة أو طابور خامس مأجور أو محب للحرية. المطلوب هو إهمال الكاتب ونسيانه تماما. افترض أنك وجدت هذا المقال فى قصاصة دون عنوان ودون اسم كاتبها. اقرأ الكلمات وفكر فى مضمونها بغض النظر عمن كتبها وعن مقاصده.

وثالثة هذه القواعد هى مسألة الصواب والخطأ. فالقارئ يتساءل دوماً بينه وبين نفسه عن مدى «صواب» ما يطرحه الكاتب من أفكار. وكثير من الكتاب يستهل فقراته بعبارات مثل «حقيقة الأمر أن»، وكأن الله سبحانه وتعالى قد اختصه بمعرفة حقيقة الأمر دون بقية البشر. «حقيقة الأمر» أن لا أحد بيننا يعرف حقيقة الأمر، وإنما نجتهد جميعا فى طرح أفكار وتصورات عساها تضىء لنا ولو جوانب من الطريق. وعلى أى حال، أدعو القارئ إلى ألا يحاول معرفة ما إذا كانت الفكرة حقيقة أم وهماً، بل أن يختبرها وكأنها مصباح صغير، فيرى إن كانت ستضىء له طريقا لا يراه بدونها أم لا.`

هذه قواعد حسن النية المؤقتة، وهى ضرورية لقراءة الكلمة المكتوبة والاستفادة منها. أدعو القارئ لتجربتها فى قراءاته هذا الأسبوع، فإن وجد فيها فائدة التقينا فى الأسبوع القادم وواصلنا الحديث. أما إن لم يجد فيها فائدة فلا حاجة له لأن يضيع وقته ويجهد عينيه فى القراءة.

نشر في المصري اليوم بتاريخ ٩ نوفمبر ٢٠١٣