العدو الصيني

نشر فى : الأحد 18 أكتوبر 2009 – 9:09 ص |الشروق

 تشبهنا الصين، أو كانت. فتاريخها الحديث حافل بحروب استعمارية هدفت لكسر شوكة الإمبراطورية الصينية وفتح أراضيها وأسواقها وثقافاتها أمام النفوذ الغربى والسيطرة على مواردها.

وبعد أن انتصرت الدول الغربية فى هذه الحروب، ودفع مئات الآلاف من الصينيين الأبرياء حياتهم ثمنا، تآمرت هذه الدول من أجل الحيلولة دون نهوض الصين كقوة متماسكة ومستقلة. وما بين شعور العظمة النابع من حضارة عريقة تضرب بجذورها فى أصل التاريخ الإنسانى، وواقع الضعف والمهانة والتبعية، ترسخت لدى غالبية الصينيين ضغينة عميقة ضد الغرب.

وعندما أعادت الصين توحيد نفسها عام 1949 (بعد عشرين عاما من الحرب الأهلية التى دعم فيها الغرب ــ طبعا ــ الطرف المكروه شعبيا) قاطعتها أمريكا واستخدمت نفوذها لمنع دول العالم من الاعتراف بحكومتها لمدة عشرين عاما. وحين أجبرت على الاعتراف بها، عملت على احتوائها سياسيا واقتصاديا وعسكريا لسنوات طويلة بعدها. هذه الرغبة فى الاحتواء تعكس خوف الدول الغربية وحذرها من «استيقاظ المارد الصينى» ورغبة الصين الأكيدة فى إعادة صياغة النظام الدولى.

كيف تعاملت الصين مع ذلك الوضع؟ غضبت وانتفضت وسبت الإمبريالية العالمية والمؤامرة الغربية وأعلنت أنها ستقوم من عثرتها وستعيد صياغة النظام الدولى. وبعد عشرين عاما من الصراخ والدب فى الأرض، تحولت نحو سياسة جديدة تتلخص فى ثلاث كلمات قالها قائدها الجديد دنج زياوبنج: «إبق رأسك منخفضة».

من وقتها قامت علاقة الصين بالعالم على أساس قبول النظام الدولى وعدم تحدى قواعده، وطمأنة العالم أن الصين ليست لها نوايا توسعية، ولن تسعى لتهديد توازن القوى الدولى (رغم امتلاكها لقوة عسكرية نووية). وبدلا من معاداة النظام الدولى سعت لاستغلال الفرص التى يتيحها من أجل بناء قوتها الاقتصادية، ثم ــ فى السنوات العشر الأخيرة ــ دمج الاقتصاد الصينى فى الاقتصاد العالمى بحيث تتشابك مصالحهما ويصعب فصلهما.

وركزت القيادة الصينية على أمريكا حتى أصبحت الصين اليوم أحد «مُلاَّك» الاقتصاد الأمريكى. فالصين هى أكبر حائز أجنبى لسندات الخزانة الأمريكية (بما قيمته 727 مليار دولار، تشكل جزءا مهما من احتياطات الصين النقدية)، وهى من أكبر المستثمرين الأجانب فى الاقتصاد الأمريكى (بلغت الاستثمارات الصينية فى أمريكا 100 مليار دولار فى العام الماضى) ومن أكبر مالكى الدين الخارجى الأمريكى (1.1 تريليون دولار من هذا الدين).

ماذا يعنى هذا؟ يعنى أن للصين مصلحة فى استقرار الاقتصاد الأمريكى ونموه ورخائه، وهى رسالة لصانع القرار الأمريكى أن الصين لا تريد أن تنمو بمعزل عن الاقتصاد الأمريكى وإنما معه. هذه أبلغ ــ وأغلى ــ رسالة طمأنة. وعندما وقعت الأزمة المالية الأخيرة، تعاونت الصين مع الدول الغربية لمنع استفحالها على قاعدة ارتباط مصير الاقتصادين الصينى والعالمى.

كما قررت الصين ألا تسعى «لقيادة» المنطقة أو الهيمنة على جيرانها. وترجمة لذلك تنازلت عن نصف مطالبها الإقليمية من أجل تسوية منازعات الحدود بينها وبين الجيران، وأصلحت علاقتها بمنظمة الآسيان (التى كانت تقليديا تدور فى فلك الولايات المتحدة ضد الصين) مع إشراك الولايات المتحدة والتعاون معها إقليميا.

سمت الصين هذه السياسة «البزوغ السلمى»، ثم غيرتها إلى «التنمية السلمية» لأن جيرانها ــ وبالذات كوريا واليابان ــ تحسبا من كلمة البزوغ! وبغض النظر عن الاسم فالمضمون واضح؛ تهدئة مخاوف من يعاديها والانفتاح عليه، ربط مصلحة المنافسين بمصلحتها، تقديم التنازلات لتفادى وجع الدماغ الذى يسببه الجيران ومشكلاتهم الصغيرة، طمأنة العالم والصبر عليه والنظر لبعيد، تفادى الصراعات والتركيز على بناء القوة الذاتية دون أن تكون موجهة ضد العالم.

نجحت هذه السياسة ــ حتى الآن ــ فى تمكين الصين من النهوض، لكن من يدرى إن كان سيكتب لها الدوام. وأول أعداء هذه السياسة هم المتشككون والمتربصون فى الغرب وأمريكا تحديدا، والذين يرون فى الصين منافسا إستراتيجيا حتى لو مشيت على الحائط. وثانى أعدائها هم القوميون الصينيون، الذين يرون فيها تقييدا لقدرة الصين على استخدام القوة فى المستقبل ضد تايوان، ويخشون أن يفسرها الجيران مثل اليابان والهند بأنها ضعف وتفريط، ويرون أن القتال والصراع ضرورى لنهضة الأمم.

لا توجد سياسة تحقق أهدافها مئة بالمئة، بل تعتمد النتيجة غالبا على التفاعل بين الأطراف ــ مثل الشطرنج. فيمكن للمتربصين بالصين أن يضغطوا عليها (فى تايوان أو التبت أو حقوق الإنسان ــ وكلها موضوعات الصين على خطأ فيها) بحيث يستفزون القوميين داخلها لدرجة تضطر معها الحكومة الصينية للتخلى عن هذه السياسة شيئا فشيئا، ومن ثم تجعل نفسها هدفا مشروعا للصراع. لكن يمكن أيضا أن تنجح الصين فى المضى قدما فى سياستها والتعامل بصبر مع مثل هذه المحاولات حتى تترسخ مكانتها وتصبح جزءا من العالم لا مصلحة لأحد فى إزاحته.