استعادة الابن الضال

نشر فى : الأحد 20 سبتمبر 2009 – 9:37 ص |الشروق

 منذ سنوات، قال لى أحد قدامى السفراء إن أحد الأشياء التى تعلمها خلال أربعين عاما من العمل بالسياسة الخارجية هو ضرورة مداواة المرء لجروحه بنفسه، لأن أحدا غيرك لن يداويها لك، وإن استلزم الجرح كيا فعليك أن تكويه بنفسك، وإن استلزم بترا فعليك به بيدك، لأن الآخرين حين يقطعون، سيقطعون وفقا لمصلحتهم هم وليس حسب احتياجاتك أوظروفك أو حتى حسب حالة الجرح. بل أغلب الظن أنهم سينتهزون فرصة جرحك كى يبتروا أكثر بكثير مما يقتضى الأمر. نظر لى السفير ــ وكنا نجلس فى عاصمة أفريقية يتقاتل أهلها بشكل اعتيادى ــ وقال: علينا أن نتعلم كيف «نقص أظافرنا بأنفسنا» ولا نترك غيرنا يقصها لنا، وانظر لهذا البلد كى ترى عواقب ترك مهمة القص للآخرين.

ومن وقتها وأنا لا أملك إلا أن أفكر فى هذه المقولة كلما قرأت خبرا عن أفغانستان، أو الصومال، أو المواجهات بين التنظيمات الإسلامية المتشددة المسلحة وبين الغرب، سواء كانت تفجيرات من قبل هذا الجانب أو قصف بالطائرات من ذاك الجانب.

وأسأل: ألم يحن الوقت كى نداوى جرحنا بيدنا ولو تضمن الأمر بعض الكى وبعض البتر، ونلم أولادنا الذين ضل بهم الطريق، ونسد الباب أمام التدخل الأجنبى فى شئوننا، ونمسك بزمام أمورنا؟

هذه التنظيمات المسلحة يقودها أبناء وإخوة لنا. والعنف الذى تلجأ إليه مشكلتنا نحن بالأساس. صحيح أن الظلم التاريخى الذى وقع على العالم العربى والإسلامى هو سبب رئيسى فى ولادة هذه الظاهرة، وأن هذا العنف وليد ضغوط ومظالم كنا نحن ضحيتها بقدر ما شاركنا فيها، لكن المشكلة فى النهاية مشكلتنا نحن، والضرر الواقع منها يصيبنا نحن أكثر. تماما مثلما يصيبك ظلم شديد فترد عليه ردا عنيفا. لكن ردك العنيف يهدر طاقتك ويهدم أعصابك ويعميك عن الرؤية. وحتى إن وقع بعض الضرر على من تسبب فى إلحاق الأذى بك، فإنه ــ فى هدوء أعصابه الباردة ــ يستغل هذا الضرر ليحقق مكاسب إضافية وينزل بك مزيدا من الظلم. فترد عليه ــ فى يأسك ــ بمزيد من العنف، ويرد عليك بمزيد من الظلم الناجح، فيزداد عنفك يأسا ويضعف موقعك أكثر فى حين تتزايد مكاسبه ويستقر ظلمه وتترسخ صورتك كشخص موتور لا فائدة من الحديث معك.

حان الوقت كى نحتوى مسلسل الخسائر هذا، حان الوقت كى نلملم عنف أولادنا بيدنا؛ بالعلاج إن نفع، وبالكى إن لزم، وبالبتر إن لم يكن هناك بد، وذلك خير لنا ولأولادنا من أن نتركهم للغريب يطيح فيهم تقتيلا بلا تمييز يوما بعد يوم، من أفغانستان إلى الصومال، ويزيد تدخله فى شئوننا وظلمه لنا ودفعه لشبابنا فى طريق اليأس والعنف.

لا يكفى أن نشرح للغرب عواقب أفعاله الخاطئة، فحتى لو توفر لديه حسن النية فهو يفتقر لحسن الرؤية وللقدرة على التمييز. علينا أن نشرح هذه العواقب لأنفسنا، لمواطنينا ولشبابنا الذى يتسرب لصفوف هذا العنف الأعمى. علينا أن نواجه المشكلة نحن ولا ننتظر أن تزول من تلقاء نفسها أو أن تتكفل بها قوات حلف الأطلنطى العاجزة عن حماية قوافلها على طرق أفغانستان.

نحن الذين يجب أن نبدأ الحوار مع الطالبان، ومع القاعدة، ومع كل التنظيمات المتطرفة المسلحة. وأن نبحث معهم عن كلمة سواء تحقن دماؤهم وتخرج الأجنبى وتغلق هذا الفصل المأساوى من تاريخنا وتحفظنا من الانحدار نحو هاوية مواجهات أشد وأعتى. نحن الذين يجب أن نبدأ هذا الحوار وأن نبلور أطرا تسمح بفض الاشتباك الجارى بين أبنائنا الضالين والدول الغربية بحيث نخرج نصل هذه الدول من لحمنا.

نحن الذين يجب أن نقص أظافرنا بأنفسنا لنحمى ما تبقى من أصابعنا، لا أن نمدها للأمريكيين والبريطانيين ونحن نقول لهم: بس بالراحة!

ليس من مصلحتنا أن ينتصر الطالبان فى أفغانستان وباكستان، ولا أن تنتصر قوات الأطلنطى التعيسة: مصلحتنا أن يتوقف هذا القتال وأن نحتوى تفسخ وتشرذم المجتمع الأفغانى والباكستانى والصومالى وأن نحتوى عنف شبابنا ونوجه الطاقة الجهادية الكامنة خلفه فيما يفيدهم ويفيد الأمة. هؤلاء شباب حملوا أرواحهم على أكفهم من أجل مبدأ: ضل بهم الطريق، لكن حرام علينا أن نتركهم يضيعون ويضيعوننا معهم.