أولاد الناس وأولاد الشوارع

نشر فى : السبت 8 أغسطس 2009 – 6:54 م |الشروق

 بعثت لى إنجى برسالة تحتج فيها على مقال الأسبوع الماضى، وتتهمنى بالسخرية من سلوكيات الطبقة الراقية وتمجيد فظاظة أولاد الشوارع. قالت: إن اختصار ذوق الطبقة الراقية إلى تناول الحلوى الفرنسية والسفر حول العالم هو جهل بتعقد فنون الحياة الراقية. وأضافت أن انحسار نفوذ الطبقة العليا منذ 1952 وانكماشها داخل جيوب صغيرة لا تقوى على الدفاع عن شرعية الذوق والتحضر، وسيطرة الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة على الحياة العامة، هو السبب فى انتشار القبح والجهل والغلظة فى المجتمع.

وأنا أوافقها على الوصف، لكنى أختلف مع التحليل؛ فالسعى لخلق طبقة عليا وتهميش الأغلبية هو ــ فى رأيى ــ سبب انتشار هذا القبح والجهل والغلظة.

لست ضد السلوك الراقى، لكنى ضد نسيان بعض أصحابه لأصلهم، وتصورهم أن هذا السلوك منبعه زرقة دمهم ويجب إبقاؤه حكرا عليهم. لست ضد الحلوى الفرنسية (ليس بأكثر ما أنا ضد الحلويات بشكل عام) ولا السفر حول العالم وبقية فنون الحياة، وإنما أنا ضد احتكارها من قبل فئة معينة. بمعنى آخر، أنا ضد الزعم بأن هناك «ناس من طين وناس من عجين». هناك بلا شك أولاد ناس وأولاد شوارع، لكن الذى يفرق بينهم ليس الأصل الطبقى المزعوم، بل نوع التربية والتعليم الذى يتلقونه. فى البلدان التى ترسخ فيها البناء الطبقى ــ مثل إنجلترا ــ ارتبط نوع التربية الذى يتلقاه الفرد بالطبقة الاجتماعية التى ينتمى إليها. أبناء النبلاء والطبقة العليا يتلقون تربية معينة ذات قواعد محددة: يذهبون لمدارس معينة، ويقضون أوقات الفراغ فى أماكن معينة، بما يشكل عالما متكاملا ومغلقا أمام أبناء الطبقات الأخرى، لدرجة أن كل طبقة اجتماعية تتتحدث الإنجليزية بلكنة تميزها. أما فى البلاد التى اتسم بناؤها الطبقى بالسيولة ــ مثل مصر ــ فإن نوع التربية اعتمد فى العقود الماضية على والديه وأسلوبهما ومدى الاعتناء الذى يوليانه إياه أكثر مما اعتمد على المستوى الاجتماعى لعائلته. هذه السيولة الطبقية فتحت الباب لسنوات طوال أمام الترقى الاجتماعى بشكل أكبر مما هو ممكن فى بلاد مثل إنجلترا. فدعونا لانهدر هذا الجانب الجميل المتبقى فى تقليد متأخر لأرستقراطية الآخرين المنقرضة.

ابن الناس ليس بالضرورة ابن الأسرة الغنية أو ذات النفوذ، ولكنه ذلك الفتى (أو الفتاة) الذى يعرف متى يتكلم ومتى يصمت، الذى يعامل الضعيف برقة ويعامل القوى بعزة، الذى لا يدس أنفه فى شئون غيره، الذى يتذوق الفنون ويعرف لغة أجنبية ولديه مهنة ما. ابن الشوارع هو الذى يأخذ مكانك فى الطابور، يخبطك بحقيبته أو بغلظة حديثه أو بعلو صوته ولا يلاحظ أو يهتم، يسير خلف شهوات حواسه الأدنى ويغلق حاستى السمع والبصر، يوقع بين زملائه ويتملق رؤساءه ويكرههم، ويغطى جهله بالاستهبال.

الذى يفرق الأول عن الآخر ليس مالا أو جاه أهله، وإنما ما أصابه من الأخلاق والتهذيب والعلم والثقافة، الذى اكتسبه عبر الأسرة والمدرسة ووسائل الاتصال (كالتليفزيون والإنترنت والمطبوعات والمسموعات). اهتمام الوالدين بتربيتك مسألة حظ وتوفيق لا علاقة مباشرة لها بغنى العائلة أو فقرها. وكذلك وسائل الاتصال التى تكاد تكون متاحة للجميع بدرجات متقاربة (إن لم تكن تطاردك أينما ذهبت)، ويعتمد استفادة الطفل أو الشاب منها على التوجيه الذى يتلقاه فى كيفية التعامل معها أكثر مما يعتمد على الظروف المادية. الشىء الوحيد الذى يقف ضد نشر التربية والعلم والثقافة والأخلاق بشكل متساوٍ بين أبناء المجتمع، هو قصر التعليم الجيد على الأغنياء، فالمدرسة هى التى تنقل العلم للطفل وتعوض ما فاته من التربية والثقافة والأخلاق. إن كانت المدرسة بالمجان وتقوم بوظائفها التعليمية والتربوية فعلا، فإنها تفتح الباب أمام من يستطيع ويرغب فى الترقى الخلقى والعلمى والثقافى معا. أما إذا كان التعليم الجيد حكرا على أبناء الأقلية، فقل: سلام رب رحيم على فرص الترقى الاجتماعى.

مجانية التعليم الجيد إذا هى المفتاح الذى يحدد ما إذا كانت السلوكيات الراقية ستظل حكرا على أقلية أم ستتسع دائرتها لتشمل الأغلبية. مجانية التعليم هى التى ستحدد ما إذا كان الفارق بين أولاد الناس وأولاد الشوارع هى تربية أهله أم فلوسهم. كلما رفعنا من مستوى التعليم المجانى، كلما أعطينا الجيل الجديد فرصا متكافئة للتعلم والترقى. وكلما قصرنا التعليم الجيد على من يستطيع أن يدفع، كلما أغلقنا الباب فى وجه الأغلبية وأصبناها بالإحباط والغضب. كلما رفعنا من مستوى التعليم المجانى، كلما ازداد عدد أولاد الناس واتسعت الدائرة التى تفرز أشخاصا متميزين. أما إذا أهدرنا جودة التعليم المجانى، فسيصبح المجتمع كله رهينة لما تفرزه أبناء فئة قليلة، تشعر بالملل، وتريد أن تنشئ لنفسها عالما مغلقا عليها.