عندما تجري انجي خلف عربة الرش

نشر فى : السبت 1 أغسطس 2009 – 9:51 م | الشروق

 عندما كنت فى الثانوية العامة وأردت أن أكون فصيحا قلت: «إن مجانية التعليم هى سبب تدهور المجتمع»، فنظر إلى زوج خالتى ــ وكان موجه أول لغة عربية ــ وقال: «والله لولا مجانية التعليم لكان زمانك بتجرى وراء عربة الرش فى البلد!» صدمت وقتها ولم يعجبنى الكلام، ولكنه كان ــ رحمه الله ــ محقا فيما قال.

تذكرت تلك الواقعة وأنا أستمع إلى إنجى تتحدث مع زميلتها (اسمها إنجى أيضا) وتشكو من أن مجانية التعليم قد خلطت الأدوار الاجتماعية، ورفعت توقعات الغالبية بما لا يمكن تحقيقه، وأفسدت البناء الطبقى فى مصر. إنجى 1، المتحدثة، عاشت مع أبويها خارج البلاد لفترة طويلة، وتعلمت فى الخارج حتى تخرجت، ثم عادت لمصر حين عاد أبواها، فأصبح على المسكينة أن تقنع بحظها العاثر وتعيش معنا حتى تتاح لها الفرصة مرة أخرى وتفر من هنا.

أما إنجى 2 فكان حظها أقل من صديقتها: لا تعليم بالخارج، بل اقتصر نصيبها على التعلم فى المدارس الأجنبية بمصر ثم التخرج فى الجامعة الأمريكية (لكنها أيضا لن تمانع إن سنحت لها الفرصة وفرت من هنا).

وأنا أعرف الإنجيتين وأهلهما: الأولى أبواها من صغار الموظفين الذى شاء حظهما أن يعملا بإحدى الجهات الحكومية التى لها مكاتب بالخارج، ودارت الدورة فسافرا للعمل بهذه المكاتب وولدت إنجى وتعلمت هناك. الثانية ابنة رجل أعمال كبير بدأ رحلة الثراء فى أول الثمانينيات عندما دخلت قطعة الأرض الزراعية التى يملكها فى تقسيم المدينة المجاورة فأصبح بين عشية وضحاها من أصحاب الملايين (عندما كانت الملايين أرقاما مهمة فى عالم الأعمال).

فى الحالتين تغير الوضع الاجتماعى للعائلة، وانتقلوا من أطراف المدينة أو مدن الريف إلى قلب القاهرة، وتغير نمط حياتهم. أسموا بناتهم إنجى تيمنا بابنة الباشا فى فيلم «رد قلبى»، وكانوا من الحكمة بما حداهم للاهتمام بتعليم الأولاد فأنفقوا فيه من المال والجهد والتركيز لعلمهم أن التعليم مفتاح النجاح للأبناء. فى الحالتين نشأ الجيل الجديد فى وضع اجتماعى طبقى جديد، تربوا على الحلوى الفرنسية، لفوا العالم، وكونوا أصدقاء من مجموعات اجتماعية تشاطرهم أسلوب الحياة الذى يعيشونه، فى حين توارى ماضى أبويهم مع الأقارب الذين لم يصعدوا هذه الدرجة الاجتماعية، وتم اختصار العالم الذى أتوا منه إلى زيارات موسمية من وإلى قرى ومدن صغيرة، تخفت شيئا فشيئا حتى تتلاشى.

هذه القصة شائعة، وتتكرر كثيرا. غير من أسماء الأبناء ومن وظيفة الأبوين، وستجد أنها تكاد تنطبق على تاريخ كل عائلة تعرفها أو قابلتها أو جاورتها. كل العائلات المصرية الموسرة أو ذات النفوذ مرت بعملية التحول هذه أو بعملية شبيهة لها: الشاب الذى قدم إلى القاهرة وصار طبيبا أو أستاذا أو موظفا أو صحفيا أو تاجرا، ثم نجح وكبر وتزوج وصار شخصا مرموقا وانتقل بعائلته درجة أو درجات على السلم الطبقى. انظر لقائمة المرموقين المصريين خلال الثلاثين عاما الماضية، من وزراء ورجال أعمال كبار وعلماء وأستاذة ومحامين وسياسيين، وابحث فى أصولهم الاجتماعية، ولن تجد أن عليك الذهاب بعيدا قبل أن تعود للريف والفلاحين.

إن لم يكن أبوك من الريف فعمك، أو جدك، أو جد أبوك. هذه هى طبيعة البناء الطبقى المصرى؛ باستثناء بقايا العنصر الأجنبى من أحفاد رعايا الدولة العثمانية، فإن الغالبية العظمى قد أتت من الغيطان، سواء كانت تحرث الأرض بنفسها أم تستأجر فلاحين أم تجمع بين هذا وذاك. حتى الطبقة المتوسطة العليا التى كانت تتكون فى الثلاثينيات والأربعينيات أتت من نفس المصدر، ثم جرى لها ما جرى وتشتت شملها وتلاشت.

كلنا من طين هذه الغيطان، بدرجة أو بأخرى، فلا يظن أحدا نفسه من عجين.

أريد أن أقول لإنجى 1 و2 وبقية الانجيهات: مرحبا بكم فى وطنكم، لكن لا تنسوا أصلكم، وتذكروا أن هذه هى بلدكم وهؤلاء هم أهلكم. فإن كان حالهم لا يسركم فهذه علامة خير، ولكن الحل ليس فى الترفع والقرف منهم، وإنما فى مساعدة من تستطيعون مساعدته على أن يجد لنفسه مكانا مثلما أوجد لكم أهلكم مكانا. وإن كان حال التعليم لا يسركم فهذه علامة أن لديكم بصر، ولكن الحل ليس فى القضاء على المجانية والقضاء على فرصة بقية أهلكم فى الحياة الكريمة، وإنما فى إنقاذ التعليم المجانى وإصلاحه وتقويته.

وتذكروا أن الفاصل الوحيد بين جامع القمامة وجراح المخ هو التعليم: فقد ظل الأول يجرى خلف عربة الرش فى البلد حتى فاتته الفرصة فى حين ذهب الآخر للمدرسة وترقى. ولولا مجانية التعليم لكنتم أنتم الذين تجرون الآن خلف عربة الرش.