أن تكون متخلفا

نشر فى : الأحد 26 يوليه 2009 – 8:06 ص | الشروق

 يعتقد الكثير منا أن التخلف مصادفة. كأننا استيقظنا يوما متأخرين بعض الشىء، ففاتنا موعد ما، وعندما نهضنا وخرجنا وجدنا أن الجميع قد تحرك فتخلفنا عن الركب وجلسنا ننتظر. وإذا انتظرنا أكثر فسيعود الركب ولابد أو نجد وسيلة ما للحاق به. وهناك من يزيد على هذا فيقول إن التخلف لم يكن مصادفة، فالعدو قد وضع لنا المنوم فى الشوربة فنمنا وفاتنا الموعد إياه وحدث ما حدث.

هؤلاء لا يعتقدون أن التخلف يعنى بالضرورة أن هناك شيئا خاطئا فى تفكيرنا أو فى رؤيتنا للأمور. فهم لا يعتقدون أن تخلفنا يعنى أننا مجتمع متخلف ــ بالطبع لا، نحن مجتمع متقدم، قادر، يمسك بزمام أموره، يواجه مشكلاته الآنية والمستقبلية بشجاعة، ويعالج أمراضه بحكمة، مجتمع متماسك ومتوازن. كل ما فى الأمر أن ظروفنا صعبة، وإمكانياتنا محدودة.

وأريد قبل كل شىء أن أهنأ هؤلاء على راحة بالهم، وأتمنى لهم دوام السعادة والرضا عن النفس، ولكنى مضطر بحكم الأمانة أن أذكرهم بأن التخلف ليس مصادفة ولا مؤامرة ولا ظروف صعبة، وإنما نتيجة طبيعية لتخلف تفكيرنا ورؤيتنا وطريقة إدارتنا لشئوننا الشخصية والعامة معا، وأنه مالم نقر بذلك، وبما يترتب عليه من ضرورة تمحيص ونقد وتغيير تفكيرنا وطريقتنا فإننا سنظل فى مكاننا أو نتدهور أكثر. مادمنا سعداء بأنفسنا، ومادمنا موقنين بأن السبب فى مشكلاتنا هو سوء الظروف، فلن ينصلح حالنا.

ليس التخلف أن تفتقر للموارد أو الإمكانات، أو أن تفتقر لعناصر القوة. التخلف الحقيقى هو أن تعجز عن ربط النتائج بالأسباب، أن تعجز عن تشخيص أمراضك ثم تعجز عن مداواتها حتى بعد أن يتم تشخيصها. التخلف ألا تستخدم الحواس التى أنعم الله بها عليك: السمع والبصر والفؤاد. التخلف أن تعتقد أن العلم لا لزوم له، وتغمض عينيك وتستلم للأحلام بدلا من أن تسعى لفهم ما ستعصى عليك. التخلف أن تفضل البكاء والولولة على الفعل والمحاولة. التخلف أن تكرر نفس الأخطاء دائما وتلقى بمسئولية الفشل على الغير. التخلف ألا تميز بين العدو والصديق، وأن تضر نفسك ومن تحب. التخلف ألا تكون قادرا على استيعاب ما يحدث حولك، ولا تدرك قصورك هذا، ثم لا تصدقه حين يشرحه لك أحد.

فى جملة واحدة، التخلف أن يفقد المجتمع القدرة على تشخيص عيوبه وتصحيحها. أى أن التخلف هو فى الأساس مشكلة فى الرؤية، والفهم، والتحليل، ورد الفعل ــ أى مشكلة فى طريقة التفكير بمعناها الواسع، وليس مشكلة مادية تتعلق بالطائرات والدبابات والتصنيع. وهذا بيت القصيد.

عندما يصيب التخلف طريقة التفكير يشل المجتمع كله ويقعده عن أدء وظائفه بشكل طبيعى، فيصبح مثل الكمبيوتر المصاب فى «المشغل الرئيسى»: أحيانا يبدأ شيئا ولا ينهيه، وأحيانا ينغلق من تلقاء نفسه، وأحيانا يعلق فى الفراغ ولا يرد، وأحيانا يعجز عن تشغيل بعض البرامج، وأحيانا لا يرى الشبكة التى يرتبط بها، وأحيانا يفقدك أعصابك وتريد أن تلقى به وبنفسك من الشباك.

عندما يحدث ذلك لكمبيوترك، لا تشترى له شاشة جديدة، أو علبة براقة تضعه فيها، وإنما تأخذه لورشة إصلاح تفتح قلبه وتخرج «المشغل الرئيسى» وتفحصه فتصلحه إن كان قابلا للإصلاح أو تبدله إن كان أمره قد انتهى.

لماذا نرفض أن نفعل ذلك مع أنفسنا؟ فيم المكابرة والتخلف بيّن للعيان؟.. ولم العناد رغم الفشل الواضح لمحاولات التجميل وشراء الشاشات الجديدة والعلب البراقة؟.. ولم نغضب إذا تجرأ أحد منا على القول بأن مشكلتنا تكمن فى طريقة تفكيرنا؟ ولماذا كلما هبت علينا نسمة جديدة واجهناها بنفس طريقة التفكير التى هى علتنا؟..

هناك مقال قديم للدكتور زكى نجيب محمود بعنوان «جنة العبيط»، يسخر فيه من المتخلف الذى لا يدرك مدى تخلفه ولا يفعل شيئا إزاء ذلك فيمعن فى التخلف ولكنه فى نفس الوقت سعيد، ومصدر سعادته هو بالتحديد جهله بمدى تخلفه. هذا حل يريح صاحبه، إلى حين. ولكن إذا أردنا الخروج من جنة العبيط هذه، فلا مناص من أن نفتح رءوسنا ونخرج «المشغل الرئيسى» ونفحصه، فنبقى على ما ينفع ونستأصل الخلايا الميتة، ونعيد تركيب العقل العربى بشكل جديد. التخلف الذى أصابنا ليس لعنة، وإنما مرض، مثل كل الأمراض يمكن الشفاء منه، لكن بعد أن تخطى مرحلة العناد والمكابرة.