تبديد الأوهام

نشر فى : السبت 27 يونيو 2009 – 6:28 م | الشروق

 لم تكن مصر فى يوم من الأيام قائدة العالم العربى.

لا يعنى هذا أن مصر لا تتمتع بثقل خاص فى النظام العربى، أو أن إسهاماتها لم تكن مؤثرة فى تطور الحياة العربية سياسيا واقتصايا وثقافيا وإنسانيا. قلت إن الدول العربية متساوية فى السيادة وفى الإرادة، لكن ذلك لا يعنى أن ثقل الدول العربية متساوٍ. بديهى أن مصر، بعدد سكانها الأكبر، وبنظامها الإدارى والسياسى الراسخ عبر العصور، وبثقافاتها المتعددة والمتراكمة، وبميراثها الحضارى المعقد، لعبت دورا رئيسيا فى التاريخ العربى. ولكن مع هذا الدور ولدت أوهام آن الآوان لتبديدها إن أردنا بناء علاقتنا بالعالم العربى على أسس سليمة.

أول هذه الأوهام أن الثقل النسبى لدولة يعطيها الحق فى ــ والقدرة على ــ القيادة. هذا غير صحيح. تاريخيا لم تستطع لا مصر ولا غيرها حشد جهود بقية الدول لتحقيق أهداف مشتركة وفقا لرؤية واضحة، وإقناع البقية بأنها تعمل للصالح العام وليس لمصلحتها الخاصة. حاولت مصر، وحاول آخرون، لكن بقية الدول لم تقبل بأن تسلم القيادة لدولة أخرى سواء كانت منبع الثقافة أم لم تكن، سواء كانت صاحبة سبعة آلاف سنة حضارة أو صاحبة جملين وخيمة وبئر نفط وعلم. الدول العربية حريصة على اقتسام القيادة: هذه حقيقة لا جدل فيها.

ثانى هذه الأوهام أن الثقل النسبى ثابت لا يتغير. وهذا أيضا غير صحيح. فقد تغير الثقل النسبى لمصر خلال العقود الخمسة الأخيرة باضطراد، سواء لأن ثقلنا نحن قد تقلص بفعل التزايد المضطرد لمشاكلنا، أو لأن ثقل الدول الأخرى قد زاد نتيجة تحسن أحوالها. وإن كان بيننا من لم يلحظ ذلك فليدخل على موقع جوجل ويبحث عن الناتج القومى الإجمالى للدول العربية، وعن مستوى دخل الفرد، وعن نسبة التعليم، وعن ترتيب الجامعات، وعن ميزانيات ومراكز البحث العلمى، وعن حجم النشر والترجمة ومبيعات الكتب، وعن المراكز البنكية والخدمية الرئيسية، وعن مقياس التنمية البشرية، وعن النصيب من القنوات التليفزيونية الأكثر مشاهدة والصحف الأكثر تأثيرا والمواقع المعلوماتية. لا مراء فى أن لدينا مشاكل، علينا أن نحلها لتحسين أمورنا، لا من أجل أن نكون خيرا من جيراننا.

وهو ما يجرنا للوهم الثالث والأسوأ فى نظرى، وهو أننا أفضل من جيراننا العرب. وأسأل: لماذا يريد البعض منا أن يعتقد أننا أفضل أو أقوى أو أعرق من جيراننا العرب؟ لماذا يصر البعض منا على تلك النظرة الدونية البغيضة للدول العربية الأخرى وكأننا خلقنا من عجين وهم من طين؟ أى شريعة تلك التى تبيح لشخص أو أمة أن تدعى أنها أفضل من جيرانها أو أذكى أو أكثر عراقة أو أكثر أهمية؟ أليست هذه نعرة عنصرية نكرهها وندينها حين يتبناها الآخرون؟ فلنعامل الناس مثلما نحب أن يعاملوننا. ثم ما ضرورة هذا الادعاء: هل نحن فى مسابقة مع الدول العربية الأخرى؟ هل نحن أطفال نتبارى من فينا الأطول قامة من الآخر؟ هل يجب تحقير إسهامات دول الخليج فى النظام السياسى العربى منذ الستينيات كى نشعر أن دورنا مهم؟ هل يجب إغفال مساهمة الللبنانين فى خلق الصحافة والسينما والفنون والآداب العربية (والمصرية) كى نشعر بالرضا؟ هل يجب إغفال الإسهامات السورية فى الفكر القومى العربى الحديث كى نشعر بالتقدير لأنفسنا؟ هل يجب إغفال مساهمات شعوب المغرب العربى فى الأدب والفلسفة العربية كى نشعر أننا بخير؟

آن الآوان لتبديد الأوهام. إذا أردنا إقامة نظام عربى فعال، علينا أن نقبل بالمساواة فى السيادة والاختلاف فى القدرات. علينا أن نقبل بحق كل دولة فى اختيار السياسة التى تلائمها، وأن نجد وسيلة لموائمة ذلك مع المصلحة العامة ومع اختلاف وزن وقدرة كل دولة. بمعنى آخر، علينا أن ننشئ نظاما يقبل المساواة والاختلاف فى آن واحد، وهو ما فعلته النظم الفعالة الناجحة. الأوروبيون يعلمون جيدا أن وزن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا يختلف عن لوكسمبورج وهولندا وبلجيكا. لكن أى من هذه الدول لا تدعى لنفسها حقا فى قيادة الآخرين، لم نسمع أى منها يدعى أنه الشقيقة الكبرى. بل على العكس، الفكرة الأساسية فى العمل الأوروبى المشترك هى عدم السماح لأى من الدول الأكبر بالتفرد بالقيادة، وإقرار المساواة بين كل الدول صغيرة أو كبيرة. وفى نفس الوقت، فإن الدول تشارك بدرجات متباينة (تعكس ثقلها النسبى) فى صنع القرارات التى يتحملون أعباء تنفيذها بدرجات متفاوتة. هذا هو المزج بين المساواة والاختلاف، وتلك ليست بدعة ولا اختراعا، بل نظم يضعها البشر بعد أن يفيقوا من الأوهام ويشرعون فى العمل الجدى.
ومازال للحديث بقية.