قهوة سادة

نشر فى : السبت 25 أبريل 2009 – 8:45 م | الشروق

 فى دار الأوبرا بالقاهرة ثلاثون شابا وفتاة يشربون قهوة سادة على روح المرحومة بلدنا، وكل ما كان جميل فيها: على الفن الراقى الذى انحدر، واللغة العربية التى أصابها «التهييس»، على الريادة المصرية للمنطقة العربية، التى تترنح تحت ضغط عائدات النفط، والجشع غير المحدود لرجال أعمال حلوا أرباحهم الفارغة محل المشروع القومى للوطن، على الشعب الذى يتقاتل للحصول على رغيف خبز فى بلد كان سلة للقمح، والذى تغرقه فتاوى عبثية لا تأخذ من الدين إلا شكلياته، على الشباب المحاصر بصعوبة الحياة فى مجتمع يقوم على الواسطة لا على الكفاءة والاستحقاق، وزهرات حياتنا اللاتى لم يعدن يجدن أزواجا بين الشباب المحاصر بالصعوبات، والعائلة التى تفتت، والأشقاء الذين لم يعد يعرف بعضهم بعضا، على الارتفاع الفاحش فى الأسعار، والذى لم تفلت من قبضته أبسط الحقوق كالولادة والدفن، على الجهل والتفاهة اللذين يستشريان بين أبنائنا، واليأس الذى يلقى بزهرة شباب الأمة إلى أحضان الموت غرقا،، وهم يحاولون الهروب من هذا الموت. ثلاثون شابا وفتاة يمدون أيديهم لنا بفناجيل القهوة السادة: فى صحتنا جميعا.

ثلاثون شابا وفتاة، ومخرجهم خالد جلال، يضحكونك على أحوال تبكى، ويعتصرك الألم فى وسط ضحكتك فى ظلام الفواصل بين المشاهد، وأنت لا تدرى إن كانت عيناك تدمع من الضحك أم من البكاء.
كان مقررا لهذا العرض المسرحى أن يستمر لمدة شهر، لكنه استمر لستة أشهر. جذب العرض جمهورا كبيرا من مختلف طبقات الشعب وفئاته، من الساسة والمفكرين إلى الشباب «الروش»، الذى لا يذهب للمسرح عادة. وفى كل ليلة يعرضون فيها على مسرحهم الصغير فى دار الأوبرا، يصطف الكبار والصغار بالساعات منتظرين فرصة لحضور العرض. أعرف شخصيا أناسا ذهبوا أكثر من ثلاث مرات حتى تمكنوا من الدخول، وآخرون رأوا العرض أكثر من مرتين وما زالوا يبحثون عن فرصة أخرى لمشاهدته.

ثلاثون شابا وفتاة يتحدثون عن أحزان مصر التى هى أحزاننا جميعا. لكنهم لم يلقوا بأنفسهم على الأرض وأخذوا فى البكاء. لم يلطموا الخدود ولم يشقوا الجيوب. لم يقفوا على خشبة المسرح لينعقوا كالبوم: خلاص ماتت، مفيش فايدة! لم ينخرطوا فى العنف والإرهاب يأسا من تغيير الواقع، ولم يهربوا من هزائم الواقع إلى المخدرات أو الجريمة أو اللامبالاة. ربما يكتئبون عندما ينتهى العرض ويعودون من جمال ظلام المسرح إلى ضوء الواقع بزحامه وضغوطه ومشاكله. ربما يصابون بنوبات من اليأس، وهم يمرون كل يوم فى نفس المشاكل، التى يصفون جزءا منها. لكنهم لم يستسلموا لهذا الواقع الأليم، ولم يقبلوا أن يكون هو نهاية المطاف.

بدلا من ذلك، بحث كل منهم فى الركام عن بارقة أمل، عن شعاع ضوء يسير خلفه. انخرطوا فى ورشة تدريب على التمثيل، وعلى مدى شهور طويلة عملوا وحاولوا وتقدموا وتقهقروا وتدربوا وتقدموا مرة أخرى. ومن الموت والانهيار والأحزان خلقوا فنا رائعا، وقالوا لا لموتنا الجماعى. قالوها برفعة وإباء، دون تشنج أو نحيب أو هستيريا. ثلاثون شابا وفتاة يتحدثون عن أحزان مصر ورءوسهم مرفوعة، ولسان حالهم يقول إننا نستحق أفضل من هذا الواقع، وأننا قادرون على الخروج من هذه الحفرة. يشربون قهوة سادة على روح بلدنا، لكنهم يقولون فى نفس الوقت: هناك بقية للذى مضى، وهذ البقية يمكن أن تأتى فى حياتكم وحياتنا.

هؤلاء الثلاثون شابا وفتاة ــ ومخرجهم ــ هم أبطالى، هم نموذج المواطن الذى أحلم به. وأنا لا أحلم فى الفراغ. فهؤلاء الثلاثون ليسوا استثناء: فهناك أكثر من ألف شاب وفتاة تقدموا للدورة الجديدة لورشة الإبداع ــ والتى لن تضم أكثر من مائة. هناك ألف من الشباب تقدموا لهذه الدورة، التى لا يعلم بوجودها سوى أقل القليل من أبناء القاهرة، فكم تظن لدينا من الشباب فى بقية أنحاء البلاد ممن يبحث عن بارقة أمل وسط الركام؟