الشركة

نشر فى : السبت 11 أبريل 2009 – 4:39 م | الشروق

 شاء القدر أن أمضى ثلاثة شهور أدرس «المحاسبة المالية» فى مدرسة للإدارة التحقت بها فى أول التسعينيات، وقد شق الأمر على حينذاك ووجدته بعيدا عن اهتماماتى، حيث كان المفترض أن أدرس موضوعات تتعلق بالعلاقات الدولية وإدارة المؤسسات العامة كالوزارات والهيئات. ولكن لم يكن هناك بد فعكفت على فك طلاسم ميزانيات الشركات وكيفية تقدير النفقات والأصول والدخل المتوقع والفرق بين الديون الجيدة والسيئة والمعدومة. ثم نسيت كل ذلك كما يفعل الطلبة حين يتخلصون من العام الدراسى. نسيته كله، عدا ثلاثة أمور ضرورية للتخطيط المالى السليم: أن تأخذ بأكثر التقديرات انخفاضا عند حساب الدخل المتوقع وعند تقييم الأصول الموجودة بالمؤسسة، وأن تلغى من الميزانية الديون المستحقة للشركة إن كان هناك شك فى إمكانية تحصيلها، وأن تأخذ بالتقديرات الأكثر ارتفاعا للنفقات المتوقعة.

وفى صيف عام 2000 كنت أعبر الحدود الأردنية للضفة الغربية عندما قابلت أحد القيادات الفلسطينية المقربة وقتها من الرئيس الراحل عرفات. كانت قمة كامب ديفيد قد فشلت، والأجواء العامة ملبدة. سألته عما سيحدث فقال إن باراك «رئيس الوزراء الإسرائيلى وقتها» قد قدم أكثر ما يمكن للرأى العام الإسرائيلى قبوله من تنازلات، ولكنها فى نهاية الأمر أقل بكثير مما يمكن للفلسطينيين قبوله. «والحل؟». أجاب بأن الحل الوحيد هو انتفاضة جديدة تضغط على الإسرائيليين وترفع من سقف استعدادهم للتنازل، تماما مثلما فعل حزب الله فى جنوب لبنان واضطر إسرائيل للانسحاب. سألته عن مدى صلابة هذه «الخطة»: هل تستطيع السلطة الفلسطينية تحمل الضربات الانتقامية، التى سيوجهها الجيش الإسرائيلى لقوات الأمن الفلسطينية ولجميع المؤسسات.. هل تستطيع السلطة أن تصمد 18عاما مثلما فعلت المقاومة اللبنانية.. هل ستحصل على الدعم الذى حصلت عليه هذه المقاومة من سوريا.. وهل ستقبل بدفع الثمن السياسى المقابل لهذا الدعم؟، قال لى إنهم يعولون على تأييد ودعم الدول العربية كلها، بما فيها مصر والأردن. سألته إن كان يعتقد حقا أن الدول العربية ستساند السلطة فى هذه الخطة، فقال لى إنهم لن يكون لديهم خيار آخر، لأن الشعوب العربية ستثور أمام مشاهد الدم والدمار وتضغط على حكوماتها من أجل التدخل إلى جانب السلطة الفلسطينية، كما سيتحرك المجتمع الدولى للجم إسرائيل والحيلولة دون انهيار عملية السلام. جاءت السيارات التى ستقل كل منا لوجهته، فودعنا بعضنا، ولم أره بعدها إذ توفى بعد هذا النقاش بعدة أسابيع.

أخذت دروس الإدارة المالية تلح على خلال السنوات التالية، وأنا أتابع تدهور الوضع الفلسطينى. لم تكن «حسبة» السلطة الفلسطينية سليمة، فقد دمرت الضربات الإسرائيلية مؤسسات السلطة تدميرا شبه كامل ــ حتى السجون هدمتها الطائرات، وعجز الجميع عن لجم القوة الإسرائيلية الغاشمة، التى حاصرت الرئيس عرفات واغتالت القادة يمينا ويسارا وأعادت احتلال المدن الفلسطينية وزجت بأكثر من عشرة آلاف فلسطينى فى السجن، ووضعت الشعب تحت حصار شامل لم ينجح أحد فى رفعه. لا الشعوب العربية ثارت، ولا الحكومات اندفعت للقتال، ولا المجتمع الدولى تحرك بفعالية.

ثم كررت «حماس» نفس الحسبة بعد ذلك بسبع سنوات، ورأينا فى يناير الماضى فى قطاع غزة نتيجة مشابهة لما رأيناه فى الضفة الغربية عام 2004.

فى الحالتين، لم تكن تصرفات إسرائيل، أو رد فعل المجتمع الدولى، أو سلوك العالم العربى مفاجئا: أى تخطيط واقعى كان يجب أن يتنبأ بأن كل طرف سيفعل ما فعله. فى الحالتين، بالغت القيادة الفلسطينية فى تقدير الأصول التى بحوزتها، وبالغت فى تقدير الدخل المتوقع، وتجاهلت النفقات، التى لا مفر من تسديدها فى عالم اليوم، وتناست أن الغير لن يسدد ما تعتقد أنه «ديون» مستحقة لها.

وأسأل: لو كانت لدينا شركة أفلستها إدارتها، وكل مرة نضخ فيها رأس مال جديدا تعود الإدارة وتقودها للإفلاس، ألا يتعين علينا أن نعيد النظر فى هذه الإدارة أو على الأقل فى أسلوب إدارتها للشركة؟