اسرائيل ضد اسرائيل (٣-٣): نتنياهو وإيران

نشر فى : الجمعة 10 أبريل 2009 – 5:35 م | الشروق

 يركز رئيس الوزراء الإسرائيلى الجديد بنيامين نتنياهو على أولوية مواجهة ما يسميه بـ «التهديد الإيراني» لأمن إسرائيل، الذى يصفه بأنه تهديد لوجود إسرائيل ولأمن المنطقة وللعالم المتحضر ككل.

ولا يمكن وصف هذا الموقف بأنه وليد الحملة الانتخابية لنتنياهو، كما لا يمكن القول بأنه موقف قاصر على حزب الليكود دون بقية الأحزاب الإسرائيلية الأخرى. فالحديث عن «التهديد الإيراني» بدأ منذ عدة سنوات مضت ويشترك فيه تقريبا كل ساسة إسرائيل.

ومنذ عودته لدائرة الضوء وفوزه بزعامة الليكود جعل نتنياهو من «الخطر الإيراني» موضوعا محوريا فى لقاءاته مع قادة دول العالم وفى تصريحاته. الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز أيضا عمل لسنوات على تعبئة الرأى العام العالمى ضد هذا الخطر الإيرانى، خلال الخمس سنوات الماضية، سواء وهو رئيس لحزب العمل «اليساري» أو وهو فى حزب كديما مع أرييل شارون وإيهود أولمرت.

أولمرت، من ناحيته، أنفق قسطا كبيرا مما كان قد تبقى له من رصيد سياسى فى الولايات المتحدة على التنسيق مع الإدارة الأمريكية الأخيرة بشأن كيفية مواجهة «الخطر الإيراني»، بما فى ذلك احتمالات توجيه ضربات عسكرية لإيران، وأشار إلى التفاهمات التى توصل لها فى هذا المضمار فى رحلته الأخيرة لواشنطن باعتبارها إنجازا «سيسعد به كل مواطن إسرائيلى لو علم بتفاصيله».

أفيجدور ليبرمان، وزير الخارجية فى حكومة نتنياهو، الذى عمل كنائب رئيس وزراء للشئون الاستراتيجية فى حكومة أولمرت كان يركز على الملف الإيرانى. أما تسيبى ليفنى، زعيمة المعارضة الجديدة، فهى أيضا من المهتمين بشدة بمواجهة إيران، بل إن هذا الأمر هو أحد أسباب «تحولها» لتأييد تسوية سياسية شاملة مع العالم العربى، على أمل أن يؤدى هذا لتعاون بين إسرائيل و«الدول المعتدلة» ضد «الخطر الإيرانى». ومن المعروف انه فى حال وقوع مواجهة مع إيران فإن ليفنى ستقبل بالانضمام للائتلاف اليمينى الحاكم الذى يقوده نتنياهو. إيهود باراك، وزير الدفاع السابق والحالى، ليس أقل انزعاجا من «الخطر الإيرانى».

أما «موشيه يعالون»، رئيس الأركان السابق والنائب الحالى لرئيس الوزراء للشئون الاستراتيجية، فهو من أكثر العسكريين الإسرائيليين اقتناعا بأن «الخطر الإيرانى» هو أكبر التحديات التى تواجه إسرائيل فى الوقت الحالى.

ومع تشكيل الحكومة الجديدة بشكلها الحالى، اكتملت أركان الهيئة المعادية لإيران فى إسرائيل وبسطت سيطرتها على كافة مؤسسات الدولة، من الرئاسة وحتى الكنيست، مرورا بالحكومة والجيش والمؤسسة الأمنية. فلا يوجد أحد فى إسرائيل تقريبا يعتقد جديا أن إيران تسعى لاستكمال قدراتها النووية من أجل توليد الطاقة. الجميع يؤمن بأن هدف إيران هو إما امتلاك السلاح النووى أو امتلاك القدرة على إنتاجه. السؤال الذى سأله الإسرائيليون لأنفسهم خلال الأعوام القليلة الماضية هو: هل يمكن التعايش مع إيران نووية أم أن امتلاكها لسلاح نووى يعنى تهديدا حقيقيا بإبادة دولة إسرائيل؟

بعض الأصوات على جانب الأقلية دفعت بإمكانية التعايش مع إيران نووية، وذلك على أساس أن إيران لن تجرؤ على استخدام السلاح النووى ضد إسرائيل لعلمها أن إسرائيل تمتلك القدرة على توجيه ضربة نووية انتقامية إن تعرضت لهجوم نووى ــ ما يسمى بإمكانية «الضربة الثانية». إلا أن الرأى السائد فى إسرائيل هو أن إيران دولة يحكمها قادة دينيون متشددون، لن يوقفهم الخوف من التدمير عن السعى لتحقيق أهدافهم العقيدية، تماما مثل الاستشهاديين الذين يرسلونهم لتفجير أنفسهم فى المدن الإسرائيلية. ومن ثم فإن امتلاك إيران سلاحا نووىا يعنى فعليا احتمال تدمير إسرائيل بمن فيها، حتى لو تلقت إيران بعد ذلك ضربات انتقامية موجعة. وقد ساهمت التهديدات التى يطلقها الرئيس الإيرانى ضد إسرائيل ــ أيا كانت دقة الترجمة من الفارسية للعبرية ــ فى ترجيح كفة وجهة النظر هذه.

لكن تعقيدات البرنامج النووى الإيرانى جعلت خيار المواجهة العسكرية مكلفا وغير مضمون النتيجة، كما ذهبت التقديرات الأمريكية والإسرائيلية إلى أن هناك وقتا متاحا قبل أن تعبر إيران نقطة اللاعودة من حيث امتلاكها للقدرة التقنية على إنتاج القنبلة النووية. وبالتشاور بين الحليفتين، وافقت إسرائيل على ترك الأمر لإدارة بوش كى يحاول وقف البرنامج النوى الإيرانى بالطرق السياسية أولا، وهو مافعلته الإدارة الأمريكية من خلال المزج بين تقديم عروض وحوافز لإيران عن طريق حلفائها الأوروبيين، والعمل على تضييق الخناق على إيران من خلال مؤسسات الأمم المتحدة، والضغط بتبنى عقوبات من مجلس الأمن بحق إيران، مع فرض عقوبات بشكل أحادى الجانب وبالتعاون مع بعض الدول الراغبة فى ذلك خارج إطار مجلس الأمن، وتمويل بعض العمليات المعارضة التى تهدف لخلخلة الوضع الداخلى فى إيران. وفى عام 2008، ومع ما ظهر من عدم قدرة هذه الإجراءات على وقف تقدم النشاط الإيرانى المثير للقلق، بدأ النظر مرة أخرى، فى إسرائيل وواشنطن، فى إمكانية توجيه ضربات عسكرية لإيران سواء من واشنطن أو تل أبيب أو الاثنين.

ولكن لأسباب تتعلق بضعف التأييد السياسى الذى كان يحظى به بوش فى 2008 بما فى ذلك من جانب وزارة الدفاع والقيادات العسكرية الأمريكية نفسها، والتكلفة المرتفعة المتوقعة لأى ضربة عسكرية لإيران بما فيها على وضع القوات الأمريكية فى العراق وتدفق النفط وأمن إسرائيل، تم تنحية هذا الخيار جانبا على الأقل مؤقتا.
وفى هذا الإطار قررت حكومة أولمرت الاستمرار فى إعطاء الجهد السياسى فرصة، هذه المرة مع وجود توجه أكثر نشاطا من قبل إدارة أوباما التى قررت الانخراط المباشر مع طهران، واستكشاف فرص التوصل لصفقة شاملة مع إيران. لكن، وفقا لنتنياهو والمحيطين به، فإن الحكومة الإسرائيلية اليمينية الجديدة لن تنتظر أوباما إلى الأبد. وتشير تصريحات المسئولين الإسرائيليين، بل وبعض المسئولين العسكريين الأمريكيين مثل الجنرال ديفيد بترايوس، قائد المنطقة الوسطى المسئولة عن العمليات العسكرية الأمريكية فى الشرق الأوسط وغرب آسيا، فإن إسرائيل قد توجه ضربات عسكرية لإيران إن لم تفلح إدارة أوباما فى التوصل لاتفاق يتم بمقتضاه وقف النشاط النووى الإيرانى المثير للقلق قبل أن يبلغ نقطة اللاعودة.

ومازال تحديد نقطة اللاعودة زمنيا موضع نقاش، فأجهزة الاستخبارات الأمريكية قد خلصت فى تقريرها الصادر فى نوفمبر 2007 إلى أن أقرب موعد يمكن لإيران فيه إنتاج كمية من اليورانيوم المخصّب تكفى لإنتاج قنبلة نووية هو أواخر 2009 ــ العام الجارى ــ إلا أنهم يستبعدون ذلك نظرا للمشكلات الصناعية والفنية التى تواجهها عملية التخصيب، وبالتالى فهم يستبعدون وصول إيران لهذه النقطة قبل – العام القادم – 2010، مع ترجيح ألا تصلها إلا فى 2013 أو حتى 2015.

وتدّعى المصادر أن تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية أقرب بكثير، وأنها تدور حول العام 2010. وإن كان البعض يرى أن إيران ستتمكن من إنتاج يورانيوم كاف لتصنيع قنبلة واحدة فى 2010، ولكنها ستنتظر حتى تنتج كمية كافية لصناعة 30 إلى 50 قنبلة فى العام، وهو الأمر الذى قد يأخذ عامين آخرين. وبالطبع فإن التقدير الإسرائيلى الحقيقى ليس متاحا سوى لقلة محدودة فى إسرائيل، ولكن الخطير فى الأمر أن هذه القلة هى التى ستقرر ردة الفعل الإسرائيلى إزاء تطور البرنامج النووى الإيرانى.

ويشير العسكريون المقربون من نتنياهو لعامل آخر فى تحديد نقطة اللاعودة للبرنامج النووى الإيرانى، وهى مد روسيا إيران بصواريخ الدفاع الجوى المتقدمة التى تحاول إيران منذ فترة الحصول عليها، أو بصواريخ دفاعية مضادة للصواريخ، وهو الأمر الذى يضع المنشآت النووية بمنأى عن أى ضربات عسكرية فعالة، ويعطى إيران المزيد من الوقت لتطوير سلاحها النووى.

ويشير تقرير صدر عن مركز الدراسات الدولية الاستراتيجية الأمريكى فى 14 مارس الماضى ــ منذ أقل من شهر ــ إلى سيناريوهين محتملين للضربة العسكرية الإسرائيلية لإيران: الأول باستخدام ضربات جوية مكثفة تستهدف أربع منشآت نووية إيرانية رئيسية: نتانز حيث يتم تخصيب اليورانيوم، أصفهان حيث يوجد مركز البحوث النووية ومنشأة تحويل اليورانيوم، أراك حيث يوجد مفاعل الماء الثقيل ومشروع منشأة إنتاج البلوتنيوم، وبوشهر حيث يوجد مفاعل الماء الخفيف (والذى يمكن أيضا استخدامه فى إنتاج اليورانيوم عالى التخصيب بإعادة تدوير بعض مخرجات المفاعل)، وذلك بالإضافة لقصف أنظمة الدفاع الجوى التى تتولى حماية هذه المنشآت. وتتطلب هذه العملية حوالى 80 طائرة من طراز إف 15 وإف 16، يستخدمون قذائف ثقيلة ذات قدرة على التغلغل فى طبقات سميكة من الأسمنت والصخور للوصول للمنشآت المدفونة فى باطن الأرض (خاصة فى نتانز)، وعدد آخر من طائرات التموين بالوقود فى الجو. وتواجه مثل هذه العملية صعوبات فنية وعسكرية عديدة، من ضمنها ضرورة المخاطرة بالطيران فى المجال الجوى للدول المجاورة (سوريا، الأردن، السعودية، تركيا) بما يحمله ذلك من إمكانية التعرض للطائرات المهاجمة، ثم الطيران لفترة طويلة على ارتفاع منخفض فوق الأراضى الإيرانية.

ومن هنا جاء السيناريو الثانى وهو توجيه ضربات للمواقع الإيرانية باستخدام الصواريخ البالستية. ويستعرض التقرير المشار إليه عدد وأنواع هذه الصواريخ ــ الموجودة بالترسانة الإسرائيلية ــ التى لا تملك إيران دفاعات مضادة لها. عواقب هذا السيناريو إذًا ستكون إما إلحاق الأذى بدولة ثالثة إذا تم اعتراض الصواريخ بها ــ الأردن وفقا للتقرير ــ أو تعرض إسرائيل لضربات انتقامية بالصواريخ الإيرانية. وهنا يشير التقرير للتطوير الجارى فى منظومة الدفاع الصاروخى الإسرائيلى، سواء منظومة أرو أو غيرها من الصواريخ المضادة للصواريخ.

هناك سيناريو ثالث لا يذكره هذا التقرير ولكن تداولته بعض المصادر الغربية، وهو توجيه ضربة نووية محدودة لمنشآت نتانز، باعتبارها الطريقة الوحيدة التى يمكن أن تسفر عن تدمير أكيد لهذه المنشآت.

غنى عن البيان أن أىا من السيناريوهات المذكورة سيكون له نتائج كارثية على المنطقة كلها، حيث يقدر عدد الضحايا المتوقع لقصف مفاعل نووى عامل بعشرات الآلاف عند القصف، وآلاف أخرى لاحقة نتيجة الإشعاعات المنبعثة جراء القصف. وبالطبع سيدفع الطرفان، الإيرانيون والإسرائيليون، الثمن الأكبر من حيث الضحايا، لكن الفلسطينيين أيضا سيكون عليهم التحمل بتبعات كارثية بحكم الموقع الجغرافى. كما وأن نتائج مثل هذه المواجهة لن تقف عند حدود الدولتين، بل ستشمل جيرانهما، وبالذات دول الخليج، إضافة للمخاطر التى ستتعرض لها الدول الواقعة بين الطرفين كالأردن. وفوق كل ذلك، الآثار السياسية المنتظرة من اندلاع أعمال عنف وعدم استقرار فى المنطقة ككل.

ليس هناك فى الحكومة الإسرائيلية من يتحدث عن تسوية يتم بمقتضاها استمرار إيران فى نشاطها النووى المثير للقلق، ولا يبدو أن أحدا فى هذا الفريق يعتقد أن أوباما سيكون قادرا على التوصل لصفقة مع الإيرانيين حول هذا الموضوع. وبالطبع فإن هذا قد يكون ذلك من باب التهديد والضغط النفسى على الجانب الإيرانى. وفيما يبدو فإننا لن نعرف الحقيقة كاملة حتى نصل لحافة الهاوية، وساعتها سيتضح ما إذا كانت هذه مبالغات، وبالتالى نعبر الحافة بسلام، أم تصورات واقعية وساعتها نقع فى الهاوية.