إسرائيل ضد إسرائيل(1-3).. اليمين يكسب جولة قد تكلفه المعركة كلها

نشر فى : الأربعاء 8 أبريل 2009 – 5:56 م | الشروق

 مما لا شك فيه أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة التى شكلها بنيامين نتنياهو هى واحدة من أكثر الحكومات يمينية فى تاريخ إسرائيل القصير، وذلك من حيث طبيعة الأحزاب المشاركة فيها، ومن حيث برنامجها السياسى. فباستثناء حزب العمل بقيادة باراك (13 مقعدا فى الكنيست)، تقوم الحكومة على تحالف بين مجموعة من الأحزاب اليمينية المتطرفة: «الليكود» الذى يقوده نتنياهو (27 مقعدا)، «إسرائيل بيتنا» بقيادة أفجدور ليبرمان (15 مقعدا)، «شاس» بقيادة إلى يشاى (11 مقعدا)، «البيت اليهودى» (3 مقاعد). وبذلك يكون لهذه الحكومة 69 مؤيدا فى الكنيست الإسرائيلى من أصل 120.

وحزب الليكود الحالى أكثر يمينية بكثير من الليكود الذى حكم إسرائيل على فترات مختلفة منذ 1977. فليس هذا هو الليكود الذى تفاوض مع مصر وقبل بمبدأ الانسحاب الكامل من سيناء حتى الحدود الدولية وإزالة جميع المستوطنات المقامة على الأراضى المصرية مقابل السلام. على العكس، هذا هو الليكود الذى رفض اتفاقيات أوسلو، وقاد حملة التحريض ضد رابين باعتباره قد تنازل للفلسطينيين عن أرض ومستقبل اليهود، الذى اغتيل فى سياقها رئيس الوزراء الإسرائيلى. وهذا هو الليكود الذى عارض بشدة الانسحاب من قطاع غزة، والذى فشل شارون نفسه فى إقناعه بضرورة هذا الانسحاب. عندما فشل شارون فى ترويض الليكود انسحب منه، هو وكل من يؤمن بضرورة السلام مع العرب مقابل التنازل عن بعض أو كل الأراضى التى احتلت عام 1967، وشكل حزب «كاديما».

الليكود الحالى هو هؤلاء الذين بقوا، الذين يعارضون أى شكل من أشكال الانسحاب من الضفة الغربية والجولان وأى مفهوم للدولة الفلسطينية المستقلة أو إزالة المستوطنات من الأراضى الفلسطينية المحتلة. وفى الانتخابات الداخلية الأخيرة لليكود، تلك التى حددت قائمة مرشحى الحزب فى الانتخابات التشريعية فازت أكثر العناصر تشددا داخل الليكود، بما أحرج نتنياهو الذى وجد نفسه فجأة محاطا بمن هم أكثر تشددا منه، وهو وضع يضيق من قدرته على المناورة السياسية داخليا وخارجيا. هذا هو الليكود الذى يقود حكومة نتنياهو الجديدة.

أما حزب «إسرائيل بيتنا»، ثانى أطراف التحالف، فيدعو صراحة أو ضمنا لتنقية إسرائيل من الوجود العربى، وتحويل إسرائيل إلى دولة يهودية «نقية عرقيا». ورغم أن تلك الدعوة تلقى تأييدا من قطاعات مهمة من الرأى العام الإسرائيلى، إلا أنها تشكل إحراجا دوليا لإسرائيل لعدم اتساقها مع الأسس التى تقوم عليها الدولة الليبرالية الحديثة القائمة على المواطنة لا العرق، كما أنها تزيد من الاستقطاب السياسى والاجتماعى داخل إسرائيل نفسها، بين هؤلاء الذين يحملون نظرة حديثة للمجتمع الإسرائيلى تقوم على المواطنة وهؤلاء الذين يتبنون منظورا دينيا أو عنصريا للمجتمع. ولكن فى نهاية الأمر، فإن أثر ليبرمان وفريقه ليس بالضرورة عكسيا على فرص السلام بين إسرائيل والعرب، حيث إن حزب «إسرائيل بيتنا» لا يعارض فكرة الانسحاب من الضفة الغربية والقدس الشرقية 1948، ولكن اعتراضه يتركز على حقوق الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية عرب 1948 والذى يقارب عددهم المليون ونصف المليون مواطن أى حوالى ربع سكان إسرائيل.

وبرغم أن وجود حزب العمل الشريك الثالث فى التحالف فيبدو أساسيا من حيث العدد، إذ إن غيابه يعنى سقوط مستوى التأييد للحكومة عن حاجز الـ60 صوتا المطلوب للحصول على ثقة الكنيست، إلا أن واقع الخريطة السياسية الإسرائيلية غير ذلك. فحتى لو انسحب حزب العمل، يستطيع نتنياهو ضم الأحزاب اليمينية الصغيرة الأخرى التى تركها خارج التحالف لمغالاتها فى تقدير ثمن مشاركتها. من ناحية أخرى، فإن باراك الذى قاد إسرائيل إلى انهيار المفاوضات مع الفلسطينين والسوريين واللبنانيين معا فى عام 2000، ثم خسر الانتخابات لصالح شارون (الذى لم يكن أحد فى إسرائيل يتصور أنه يمكن أن يصبح رئيسا للوزراء)، هو من أقل قيادات حزب العمل تمثيلا لإرث هذا الحزب، وقد فقد زعامته للحزب عام 2001 وظل لفترة طويلة خارج دائرة القيادة فيه، ويُتهم دائما هو وبنيامين بن أليعازر وزير الصناعة والتجارة الجديد بأنهما على استعداد لتدمير الحزب من أجل البقاء فى السلطة، وهو الأمر الذى يفسر مستوى الغضب داخل الحزب على قرار باراك المشاركة فى الائتلاف الحاكم.

أما شاس والبيت اليهودى فأحزاب يمينية لا تدعى عكس ذلك بأى حال، وإن كان مدى توافقها مع فكرة السلام والدولة الفلسطينية يحتمل التفاوض. ولكن الأساس فيها أن أجندتها داخلية، وتركز جل طاقتها على حماية المتدينين اليهود ممن لا يريدون الخدمة فى «الجيش الصهيونى» ولكنهم يعتمدون على ميزانية الدولة لدعم مؤسساتهم الدينية والتعليمية والعائلات كبيرة العدد لمؤيديهم، ودعم الطابع الدينى اليهودى للمجتمع والدولة الإسرائيليين.

وبالتأكيد فإن برنامج الحكومة، الذى لم يذكر الدولة الفلسطينية أو حل الدولتين أسس عملية السلام المعروفة، يعكس كل ذلك. إلا أن غموض البرنامج السياسى الذى يعكس نوع المساومة بين أطراف التحالف أكثر من أى شىء آخر لا يجب أن يعمينا عن مدى يمينية التوجه الجديد.

هذا التوجه لا يقتصر على وزراء التحالف الحكومى ولا يشكل ليبرمان سوى أقل عناصره أهمية، بل يمتد ليشمل المواقع الحساسة للنظام الأمنى السياسى. فهناك مكتب رئيس الوزراء ومستشاروه، الذين يلعبون أحيانا دورا أهم من الوزراء، وهناك مستشارو الوزراء، ورؤساء لجان الكنيست، والتعيينات الأمنية الرئيسية، وهكذا. الليكود وأصدقاؤه اليمينيون يملأون هذه الأماكن، ويمدون الرؤية المتطرفة إلى داخل أعصاب ومفاصل النظام ككل.

هذا الانحراف لليمين يبنى على ملامح الخريطة السياسية الإسرائيلية السائدة منذ عقود، وإن كانت عودة الليكود الجديد الذى كان الكثيرون يتوقعون اختفاءه بعد إنشاء شارون لحزب كاديما تشكل تطورا لافتا. لكن ما استجد فعلا هو أن أغلبية المجتمع تتجه إلى اليمين، وهو ما أوضحته نتيجة الانتخابات الأخيرة. فبرغم أن حزب كاديما بقيادة تسيبى ليفنى هو الفائز الأكبر (28 مقعدا)، إلا أن مجموع المقاعد التى حصلت عليها الأحزاب الصهيونية اليسارية هى 44 مقعدا (28 كاديما، 13 للعمل، و3 لميريتس) لا تعطى كاديما أى فرصة فى تشكيل الحكومة. أما الأحزاب العربية فهى تنتمى للمعادل السياسى لطائفة المنبوذين: فلا حزب يريد أن يضم العرب فى ائتلافه الحاكم، ولا حزب يريد أن يكون بقاؤه فى الحكم أو تمريره لسياسة يعتمد على أصوات «العرب».

المجتمع الإسرائيلى كله اتجه لليمين، ولذلك تبعات واضحة على السياسات الإسرائيلية.

فمن ناحية، هناك حديث متزايد عن تزايد نفوذ الفئات المتدينة والأصولية اليهودية ونفوذ المستوطنين فى دوائر المؤسسة الأمنية والجيش، وهو نفوذ يتداخل فى الوقت الحالى مع النفوذ اليمينى. وإن كان نتنياهو قد نجح حتى الآن فى امتطاء هذا النفوذ وتطويعه لخدمة الليكود ومستقبله السياسى، إلا أن هناك قلقا بما فى ذلك لدى قيادات ليكودية من انفلات العنصر الأصولى من السيطرة وقيامه «بتمثيل نفسه بنفسه» أى بدون الليكود أو الاستيلاء التدريجى على الليكود.

ومن ناحية أخرى، يعكس توجه المجتمع لليمين اقتناع أغلبية الإسرائيليين أنه لم يعد هناك أمل فى السلام مع الفلسطينيين أو العرب عامة، وأن كل المحاولات الإسرائيلية للتقارب مع العرب والفلسطينيين قد باءت بالفشل، وأن الجانب العربى لن يقنع بأقل من تدمير الطابع اليهودى لإسرائيل، وهو ما لا يرغب أحد من الإسرائيليين فيه. وترى هذه الأغلبية فى استمرار هجمات المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة بعد انسحاب إسرائيل الدليل الدامغ على أن العرب يستهدفون إسرائيل نفسها وليس فقط احتلالها للأراضى الفلسطينية. ولهذا السبب فإن الحرب الأخيرة على غزة حظيت بتأييد قطاعات واسعة جدا من الإسرائيليين. معظم مواطنى إسرائيل اليهود لا يأبهون كثيرا للتفسيرات العربية، مثل أن احتلال إسرائيل لغزة لم ينته بالانسحاب، أو أن استمرار احتلال إسرائيل للضفة الغربية والجولان يعنى استمرار الصراع. لا أحد فى إسرائيل لديه استعداد لسماع هذه التفسيرات، بل يستمع الجميع لصدى صوته هو وللحجج التى تتفق وآراؤه. وبالطبع فإن السياسيين هم آخر من سيقول للشعب شيئا يختلف عما يريدون سماعه. النتيجة هى مزيد من الغضب على الفلسطينيين والعرب، واليأس من إمكانية تحقيق السلام. وإذا كان السلام وهما، فلا مبرر إذا للانسحاب من مزيد من الأراضى. هذه هى المعادلة الإسرائيلية، بغض النظر عما يعتقده العرب أو المجتمع الدولى.

ولكن السؤال الأساسى هنا هو لأى مدى يشكل هذا نصرا حقيقيا لليمين وإلى أى حد يشكل هدية مسمومة؟ هل كسب اليمين موقعة قد تؤدى لخسارته المعركة ككل؟ هل وضع نتنياهو نفسه واليمين فى مأزق يكشف استحالة تطبيق الدعاوى التى يتبناها هذا التحالف؟ أم سيتمكن نتنياهو من الحفاظ على التطرف وقيادة الدولة فى نفس الوقت، وبالتالى تدعيم سيطرة اليمين على السلطة السياسية فى إسرائيل؟

صحيح أن الرأى العام الإسرائيلى قد يأس من إمكانية تحقيق السلام مع الجانب العربى، إلا أن استطلاعات الرأى تشير فى مجملها إلى استمرار 60% من الرأى العام على تأييدها لحل الدولتين إن أمكن تحقيقه مع ترتيبات أمنية يعتمد عليها. وأهم من ذلك، أن غالبية الرأى العام الإسرائيلى يعلق أهمية كبرى على متانة العلاقات مع الولايات المتحدة. وبالرغم من قدرة رؤساء الحكومات الإسرائيلية على تحدى الرئيس الأمريكى وتأليب الكونجرس عليه (مثلما فعل رابين مع نيكسون، وبيجين مع كارتر، وشامير مع بوش الأب، ونتنياهو مع كلينتون)، إلا أن توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل لا يلبث أن يضر بموقف رئيس الحكومة الإسرائيلية الداخلى، وهو ما حدث لجميع رؤساء الوزراء المشار إليهم، وآخرهم نتنياهو الذى دفع ثمن هذا التوتر فى انتخابات 1999 التى خسرها.

لا أحد فى إسرائيل يريد أن تصل الأمور بين حكومته والإدارة الأمريكية لأزمة، ومن يفعل ذلك فهو غير قادر على إدارة شئون الدولة بالحنكة اللازمة، ومن ثم عليه أن يترك القيادة لغيره. وكل رئيس وزراء إسرائيلى يعرف هذه القاعدة، ويعلم أن مصيره ومصير الرئيس الأمريكى مرتبطان. نفس القاعدة تنطبق بدرجة أخف بكثير على العلاقات مع أوروبا. أما الحكومة التى تنجح فى الإضرار بالعلاقات مع الولايات المتحدة وأوربا فى نفس الوقت، مثل حكومة نتنياهو الأولى، فهى بلا شك حكومة فاشلة من وجهة نظر الرأى العام الإسرائيلى. من هنا، وفى هذه الحدود، تكمن أهمية عدم تجاهل المجتمع الدولى تماما. بعض التجاهل مطلوب، ولكن بحدود.

ويبقى السؤال: هل يمكن لحكومة يمينية متطرفة تسد الطريق أمام تسوية سلمية فى الشرق الأوسط أن تنجح فى الحفاظ على علاقات إيجابية مع الولايات المتحدة بقيادة أوباما ومع أوروبا بقيادة ساركوزى وميركل وبراون؟

إن الائتلاف الحكومى الإسرائيلى الجديد يحمل فى طياته بذور عدم الاستقرار. وأول مصادر ذلك هو وزير الخارجية الإسرائيلى. فليبرمان قد يدخل السجن. وزير الخارجية الإسرائيلى الجديد أمضى بالفعل خمس ساعات من أول أيامه بالوزارة فى الرد على أسئلة الشرطة حول تهم موجهة إليه تخص الرشوة وغسيل الأموال. والشرطة تقول إن لديها أدلة كافية لتوجيه الاتهام له رسميا، وبالتالى سيرفع الأمر إلى المدعى العام الذى سبق ونظر فى قضايا مشابهة مع شارون وأولمرت والرئيس السابق كاتساف. والمدعى العام له سمعة قضائية جيدة فى إسرائيل، ولن يكون مفاجئا أن يطلب توجيه الاتهام للسيد ليبرمان، خاصة فى ضوء التذمر الشعبى الشديد من فساد السياسيين. صحيح أن المحيطين بليبرمان يقولون إن هذا التحقيق قد بدأ منذ 13 عاما ويمكن أن يستمر لـ 13 عاما أخرى، ولكن هذا بالضبط ماقاله رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت قبل أن يضطر للاستقالة قبل أسابيع. إن دخول ليبرمان السجن لن يخرج حزبه من الائتلاف، لكنه سيوجه بالتأكيد ضربة قوية لمصداقية الحكومة الجديدة.

أما ثانى مصدر لعدم الاستقرار فهو حزب العمل الذى يغلى بالغضب على باراك وما يراه قرابة نصف أعضاء الحزب من أنه تدمير لحزب العمل. وفى العادة فإن المتذمرين فى النظام السياسى الإسرائيلى لا يحتفظون بتذمرهم لأنفسهم، وإنما يحيكون المؤامرات بهدف إسقاط الشخص أو السياسة موضوع التذمر فى هذه الحالة باراك. باراك، الذى لم يتمكن من حشد سوى 55% من الأصوات لصالح الانضمام للحكومة، قد يجد قيادته للحزب موضع مشاكسة وتهديد، بما يترتب عليه إمكانية خروجه من التحالف، ودفع نتنياهو فى قبضة المزيد من الأحزاب الصغيرة المتطرفة التى ستنهكه بمطالبها.

ثالث مصادر عدم الاستقرار هو الليكود نفسه، لما يعانيه من مشاكل. فنتنياهو محاصر بفريقين كلاهما غاضب عليه. فهناك قيادات الحزب التى لم تظفر بالمناصب التى تستحقها على الأقل فى نظر نفسها ومؤيديها ــ وذلك نتيجة اضطرار نتنياهو للتنازل عن هذه المناصب للأحزاب المشاركة فى الائتلاف. وهناك أيضا العناصر الأكثر تطرفا ويمينية من نتنياهو الذين يريدون دفع الحزب نحو اليمين أكثر مما يريد هو، وسيتربصون بأى محاولة يقوم بها نتنياهو للإيحاء بالانفتاح إزاء الفلسطينيين أو العرب أو الاستجابة للضغط الدولى، خاصة فيما يتعلق بقبول حل الدولتين ومباديء عملية السلام.

المحصلة، أن التحالف اليمينى الذى وصل للسلطة فى إسرائيل سيحكم دون أن يكون لديه ورقة توت تقيه انتقادات المجتمع الدولى وضغوط الراغبين فى السلام من الإسرائيليين. فجأة يجد المتطرفون أنفسهم يحكمون وحدهم، ويواجهون حكم الناخب على مدى نجاح وفاعلية رؤيتهم السياسية المتطرفة. فهل يعريهم هذا؟ أم سينجحون فى التخفى خلف عملية سلام زائفة أو خلف الصواريخ الفلسطينية؟