آخر الخط

نشر فى : السبت 7 مارس 2009 – 8:44 م | آالشروق

 نجلس فى الأتوبيس الضخم المتهالك ونحدق فى المحطة الأخيرة التى تقترب. حالة الأتوبيس لم تعد تسر عدوًا ولا حبيبًا: المحرك يحدث من الضجيج أكثر مما ينتج من قدرة على دفع الأتوبيس. كل عدة دقائق يعطل، وينزل بعضنا كى يدفع الأتوبيس المفكك الأوصال (بينما يتظاهر البعض منا بالنوم كى يتفادى المشاركة) فيسير عدة أمتار ثم يتوقف.

ماسورة العادم التى تم رفعها لأعلى لسببب غامض تنفث فى الهواء سما يأكل من صحتنا جميعا. المقاعد تحطم معظمها، وسرق بعضها. افترش معظم الركاب الأرض، فى حين استأثر الركاب الأكابر والعاملون فى «المصلحة» بالمقاعد السليمة. حريق يشب حينا، وسقف يتهاوى على رءوس بعضنا حينا آخر، وسيارات كثيرة تسبقنا وتقطع علينا الطريق.

الأتوبيس ينوء بحمله ويتجه لحائط المحطة الأخيرة، وعندما يشتكى أحد الركاب يرد عليه الكمسارية بسرعة أن احمد ربك أن الأتوبيس موجود، وإن لم يعجبك فانزل وأكمل الطريق سيرا أو خذ «تاكسى». بعضنا فعل، أو ينتظر، وبعضنا كسرت رجله فى أثناء الهبوط، أو قضى نحبه غرقا وهو يحاول.

الأتوبيس متهالك وكلنا يعلم ذلك، والكمسارية أولنا، لكنها مهنتهم أن يدافعوا عن المصلحة ويحاولوا رفع روحنا المعنوية. كلماتهم لم تعد تقنع أحدًا، والدليل على ذلك أنهم أنفسهم لا يتورعون عن ترك الأتوبيس لغيره عندما تسنح لهم الفرصة. الأتوبيس ينوء بحمله ويشارف على الوصول لمحطته الأخيرة، والجميع يشتكى من سوء الحال. وجوه الركاب مكفهرة، بعضهم متأفف يترحم على الزمن الجميل عندما كان الأتوبيس رشيقا وسريعا وآمنا، ومعظمهم يصرخ محذرًا: سينهار الأتوبيس ــ سيرتطم بالحائط فى آخر الخط ــ سيتوقف ونظل عالقين فى هذا المكان النائى وحدنا وتذوى حياتنا فيه بينما يتقدم بقية خلق الله ــ سنأكل بعضنا البعض من شدة الجوع ــ سيقتلنا العادم ــ وغير ذلك من علامات سوء المنقلب وبئس المصير.

الأتوبيس المتهالك يشارف على آخر الخط: نكاد نرى حائط المحطة الأخيرة من حيث نجلس أو نقف أو ننحشر أو نتشعبط. وكلنا فى الهم شرق؛ لا نعلم ماذا سيحدث لنا: قد يتوقف الأتوبيس قبل الحائط، وقد يرتطم به بمن فيه وينهار تماما ونعلق فى الفراغ. ربما يتوقف الأتوبيس ثم ننزل منه ونأخذ أتوبيسا جديدا، قد يكون مثله أو أفضل أو أسوأ. وربما يدور الأتوبيس قبل الحائط مباشرة ويعاود عادته القديمة: يسير كى يتعطل ويقف ثم يستجمع بعض قواه ويمضى أمتارًا قليلة ثم يقف ثانية فى مسيرته الثابتة نحو الفناء ــ مثلما يفعل منذ عشرات السنين. وقد يجوع هؤلاء الذين يفترشون الأرض أكثر مما يستطيعون الاحتمال فيقومون علينا ويكسرون ضلوعنا ويرموننا خارج الأتوبيس ويستولون عليه ــ ثم يعلقون فيه وحدهم.

أشرفنا على آخر الخط، ولا فائدة من الشكوى ووصف سوء الحال أكثر من ذلك، فهمنا.

آخر الخط يلوح لنا واضحا كالحائط، وعلينا أن نجد الوسيلة كيلا نرتطم به. لا فائدة من التأفف وتذكر الماضى الجميل (الذى لم يكن جميلا ولا حاجة ــ فقط كان ظلمه مختلفا وخيبته أقل بيانا للعيان)، ولا فائدة من الصراخ أوالعويل أوالترهيب أوالذعر، ولا فائدة من محاولات القفز اليائسة. طبعا لا فائدة من الاستماع لحديث الكمسارية المجروحة شهادتهم، وقطعا لا فائدة من أن نمسك برقاب بعضنا.

أنا شخصيا زهقت ممن يبشروننا بسوء المنقلب: هؤلاء الذين يصرخون فى الركاب طيلة الوقت أن «مفيش فايدة» وأن الأتوبيس بمن فيه سائر ولاريب للدمار وأننا هالكون لا محالة وأن الأمر مقضى. ليذهبوا هم ويقضوا؛ هذا هو آخر خط هؤلاء الناس معى. أريد أن نضع الشكوى جانبا ولو ساعة، ونفكر فى الخط الذى يجب أن نأخذه، وكيف نمده لنصل بين المكان الذى نحن فيه والمكان الذى نريد أن نصل إليه. أريد أن أكتب عما بعد آخر الخط: عن الأتوبيس الجديد والوجهة الجديدة والطريق الجديد، حتى لو كان ذلك هو آخر ما أخط.